بناء المؤسسات institutions هو من الأمور الصعبة لاشك في حياة المجتمعات.. وبناء مؤسسة يعني بناء فكر وثقافة وقيم وممارسات على صعيد العمل الداخلي للمؤسسات، وعلى صعيد علاقتها بجمهورها الداخلي، وعلى صعيد علاقتها بالمجتمع الخارجي.. والمؤسسة هي صورة انعكاسية للمجتمع تحمل همومه وتترجم أهدافه
إلى واقع عملي على الأرض يدركه الصغير والكبير والرجل والمرأة في مجتمع تلك المؤسسات..
والمجتمع مكون من عدد من المؤسسات منها السياسية والاقتصادية والدينية والتعليمية والعسكرية والأمنية والاجتماعية والإعلامية وغيرها.. وكل مؤسسة هي مجموعة من القيم والأفكار التي بنتها عبر تاريخ طويل من العمل والممارسة.. واستطاعت مثل تلك المؤسسات أن تصبغ نشاطها بقيم استمدتها من قيم المجتمع ومن تقاليده.. وأصبحت تلك القيم مكونا أساسيا في ثقافة تلك المؤسسات..
كما يمكن أن تفيض قيم تلك المؤسسات على ثقافة وقيم المجتمع لتؤثر في قيم المجتمع، وتتفاعل معه بشكل أو بآخر.. والمؤسسة التي اقصدها هنا بمفهوم المؤسسة المجتمعية وهي نتاج وملخص لقيم وثقافة وممارسات المجتمع في شأن من شئون الحياة وليست جهة أو إدارة فما اقصده هو المؤسسة بمفهومها السيسيولوجي العام.. وبهذا فالمجتمع يتكون فقط من عدد محدود من المؤسسات الكبرى لا تتجاوز أصابع اليدين في أقصى أحوالها..
والمؤسسات هي قوة المجتمع، ولكنها قد تشكل نقطة ضعف في نفس الوقت.. فكلما كانت المؤسسة قوية بذاتها كان لها أن تمتد إلى المستقبل وإلى الأجيال الأخرى بكل اقتدار ومسئولية وتحد.. وكلما كانت هشة وضعيفة فهي أقرب إلى أن تجعل المجتمع هشاً وضعيفاً وقابلاً للتفكك والانحدار.. وفي المقابل فإن المجتمع الذي يملك مؤسسات قوية ومترابطة ومتحدة مع أهدافه هو المجتمع الذي يصمد أمام التحديات ويدخل إلى المستقبل بقوة واقتدار..
وإذا نظرنا في بعض المجتمعات النامية فنجد أن ضعف تلك المؤسسات أدى إلى انهيار مجتمعاتها، والى تلاشيها من خارطة العالم، وفي المقابل فإن قوة المؤسسات في المجتمع الغربي هي التي صعدت به إلى عالم التقدم والقوة، وأبقته طويلا لمئات السنين وصمد أمام كوارث وحروب عالمية وتحديات محلية كبرى..
ومن المهم التأكيد إلى أن هيمنة مؤسسة على باقي المؤسسات ليس من مصلحة المجتمع.. كأن تهيمن المؤسسة السياسية على باقي المؤسسات كما هي في المجتمعات الديكتاتورية، أو أن تفرض المؤسسة الدينية سطوتها على المجتمع كما كانت أوروبا في القرون الوسطى، أو تسيطر المؤسسة الاقتصادية على باقي المؤسسات ويصبح المجتمع رهيناً لها، أو أن تختزل المؤسسات في مؤسسة أمنية وتصبح أداة قمعية على باقي المؤسسات والمجتمع كما شاهدنا في بعض الدول التي انتهت خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين.. والوضع الطبيعي هو أن يكون لكل مؤسسة دورها ومكانتها واحترامها بين باقي المؤسسات الأخرى.. وأن تعمل جميع المؤسسات على خدمة أهداف المجتمع الكبرى..
والقاسم المشترك بين جميع مؤسسات المجتمع هو ما نسميه نحن في بلادنا بالثوابت، ويسميه غيرنا بأهداف بقاء المجتمع.. وكلما كانت هذه الثوابت واضحة وجلية، وكلما كانت أهداف المجتمع راسخة وعميقة في فكر وممارسة المؤسسات، وفي ثقافة الأفراد كان الاستقرار والنظام هو قوة المجتمع وسندها ومسارها الواضح للمستقبل..
ومن المعروف أن ثوابت المجتمع يجب أن تكون راسخة جيلا بعد جيل وعبر التاريخ وفي المستقبل.. ولهذا وجب على جميع المؤسسات أن تعمل على ترسيخ هذه الثوابت، وجعلها مكونا جوهريا في عملها وفي نشاطاتها.. كما يستوجب الأمر أن تتحد هذه المؤسسات في نقل هذه الثوابت إلى الأفراد في المجتمع.. وتعاني كثير من المجتمعات من حالة انفصام الجيل الجديد عن ثوابته المجتمعية.. فلم تتح له الفرصة أن يبني داخله مثل هذه الثوابت.. وهنا يشكل المستقبل خطورة على تلك المجتمعات لأن الجيل القادم غير مدرك لمثل هذه الثوابت..
ولهذا فلربما تحتاج بعض المجتمعات أن تتوقف برهة في التاريخ، وتنظر إلى الجيل القادم.. وتسأل هل استطعنا نحن كمؤسسات مجتمعية أن نبني هذه الثوابت في فكر وثقافة الجيل؟ وإذا لم تكن الإجابة واضحة فأولى أن تعمل هذه المؤسسات متحدة أو منفصلة في تأسيس ثقافة الثوابت في المجتمع.. ويجب ألا تكون النظرة إلى أن مادة تربية وطنية في مناهج التعليم العام أو برنامج اعرف بلادك في التلفزيون الرسمي أو مقال لكاتب أو كاتبة هو ما سيشكل عملية التغير في بناء وترسيخ قيم الثوابت.. مفهوم ثقافة الثوابت يتعدى الرسائل المباشرة إلى رسائل عميقة وبناءات في الذاكرة والفكر، وبناءات في الوعي والإدراك، وتأسيس ثقافة مسئولية المجتمع وتعميق الولاء للوطن والمجتمع والمستقبل..
(*) المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية - أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود