قطعاً لم يسمع صاحب الفخامة الرئيس الفرنسي ساركوزي بقصيدة الشاعر محمود طه (فلسطين) عام 1949م، ولم يأسر فؤاده صوت الكروان محمد بن عبد الوهاب وهو يصوغها نشيداً خالداً (أخي جاوز الظالمون المدى... فحق الجهاد وحق الفدى)...
... ولن يتوقع أن هذا البيت فيها (أخي قم إلى قبلة المشرقين.. لنحمي الكنيسة والمسجدا)... وذلك حينما أعلن أن الهدف من تفجيرات الاسكندرية تهجير النصارى من الشرق الأوسط، متجاهلاً موقف العلماء ابتداء من سلف الأمة إلى خلفها بلا استثناء من الكنائس وضرورة التعايش بين طوائف المجتمع وأديانه وأعراقه، وخير دليل هذه القصة التي وردت في كتب التاريخ الإسلامي، ونص عليها العلامة ابن كثير في أحداث سنة 767هـ...
«وبالفعل انطلقت الحملة الصليبية القبرصية يقودها بطرس الأول بنفسه ووصلت إلى الإسكندرية يوم الأربعاء 22 محرم سنة 767هـ فلم يجدوا بها نائباً ولا جيشاً ولا حافظاً للبحر ولا ناصراً فأشار عليهم كبير فرسان المعبد بالانتظار حتى يوم الجمعة والهجوم وقت صلاة الجمعة لضمان تواجد الرجال بالجوامع والنساء بالبيوت فيوقعوا أكبر خسارة على المسلمين.
وفي صبيحة يوم الجمعة 24محرم سنة 767 هـ هجم الصليبيون على المسلمين العزل الآمنين في بلدهم هجوم الضواري الكاسرة التي لا هم لها إلا القتل وسفك الدماء واستباحة الأعراض فارتكبوا مجزرة بشعة جداً أعادت للأذهان ذكرى مذبحة المقدس عندما قتل سبعون ألفاً من المسلمين سنة 492هـ وقام الصليبيون بإحراق المساجد والجوامع والأسواق ونهبوا الأموال فأي دين ينصرون وأي صليب يرفعون وما هذه إلا أفاعيل اللصوص المجرمين السفاكين.
وظلت الحملة الصليبية القبرصية بالإسكندرية طوال أسبوع كامل يقتلون ويسرقون وينتهكون قبل أن يفيق المسلمون من غفلتهم فيرسل أمير مصر جيشاً كبيراً إلى الإسكندرية فيسرع الصليبيون بالمغادرة مسرعين، وقد حملوا معهم كثيراً من الأسرى ووصل سلطان المماليك الأشرف بن حسين ومعه أمير مصر يلبغا إلى الإسكندرية في نفس اليوم، ولكن بعد فوات الأوان فقد أقلعت سفن الصليبيين محملة بالأسرى الذين كانوا يبكون ويستغيثون ويجأرون إلى الله ووصلت أصواتهم للمسلمين على الشاطئ فتقطعت الأكباد وذرفت العيون وهم لا يملكون لإخوانهم شيئاً.
كان لهذه الحملة الصليبية المروعة على ديار المسلمين صدى هائل في العالم بأسره الإسلامي لعظم المصيبة وضخامة الخسارة والصليبي لكونها الحملة الصليبية الكبرى الأولى بعد توقف دام قرناً من الزمان مما بشرهم بعودة سلسلة الحروب الصليبية حتى أن صدى هذه الحملة قد وصل إلى الأندلس فتحرك أهل مملكة غرناطة وهاجموا مدينة جيان التي كانت قد وقعت في أيدي الأسبان قبل ذلك , وقد ألف كاتب مصري هو محمد بن قاسم النويري المالكي السكندري كتاباً عن هذه الحملة سماه (الإلمام بالإعلام فيما جرت به الأحكام والأمور المقضية في وقعة الإسكندرية) وأيضاً ألف فيها الصليبيون قصائد شعرية أشبه بالملحمة كتلك التي ألفها الفارس الصليبي جيوم دي مانشو، وقد اشترك في هذه الحملة ونظم قصيدة من تسعة آلاف بيت وسماها (ملحمة بطرس الأول).
كان من صدى الحملة أيضاً عند المسلمين مما دفع السلطان الأشرف لأن يصدر قراراً بالقبض على نصارى الشام ومصركلهم وأخذ ربع أموالهم لعمارة ما خرب من الإسكندرية ولتجهيز جيش جديد وأسطول بحري لغزو قبرص واستنقاذ أسرى المسلمين ورغم أ نه قرار سلطاني وبحق النصارى الذين قام إخوانهم في الصليب بارتكاب تلك المجزرة إلا أن أهل العلم ومنهم العلامة ابن كثير قد رفضوا هذا القرار وأوضحوا أنه لا يجوز شرعاً».... ولي وقفات مع هذا النص:
1- منهج سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- سلب عقول العرب والعجم بسبب احترامه لإنسانية الأمم والمعتقدات وتركيزه على القيم والأخلاق الحميدة وخير مايدل على ذلك تعامله مع جيرانه اليهود واستقباله لوفود النصارى وتزويجه من مارية القبطية وصفية اليهودية- رضي الله عنهما-، وقد جاء في عهده -صلى الله عليه وسلم- لأهل نجران في اليمن: « ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وبِيَعِهم وصلواتهم، لا يغيّروا أسقفاً عن أسقفيته، ولا راهباً عن رهبانيته، ولا واقفاً عن وقفانيته «وجاء في عهده صلى الله عليه وسلم لليهود حين قدم المدينة: « وإن يهود بني عوف ومواليهم وأنفسهم أمة من المؤمنين، لليهود دينهم وللمؤمنين دينهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يرتغ إلا نفسه وأهل بيته».
2- لايمكن أن ينسى التاريخ الإنساني ماقاله سيدنا أبو بكر حينما وصى أمراءه: «ولا تغرقن نخلا، ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة تثمر، ولا تهدموا بيعة، ولا تقتلوا الولدان ولا الشيوخ ولا النساء، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له». ومافعله سيدنا عمر بن الخطاب وهو الفاروق حينما رفض الصلاة في كنيسة القيامة خشية أن يتخذها المسلمون مسجدا، وجسد ذلك المنهج الإنساني في العهدة العمرية التي صاغها وهوالقائل:» أُوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، أن يوفَّى لهم بعهدهم، وأن يقاتَل من ورائهم، وأن لا يُكَلَّفوا فوق طاقتهم). وجاء في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيلياء (القدس): (هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهلَ إيلياء من الأمان: أعطاهم أماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم، وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملّتها، لا تُسكن كنائسهم، ولا تُهدم، ولا يُنتقص منها، ولا من حيّزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يُضارّ أحد منهم، ولا يَسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود»
3- صالح خالد بن الوليد رضي الله عنه أهلَ الحيرة في العراق: « على أن لا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة، وعلى أ ن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار إلا في أوقات الصلوات، وعلى أن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم «.وجاء في صلح عمرو بن العاص لأقباط مصر: «هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصُلُبِهم وبرهم وبحرهم، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص «.
4- ذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى: أنه لا يمنع أهل الذمة من رم ما تشعث من الكنائس، والبيع، ونحوها التي أقر عليها، وإصلاحها؛ لأن المنع من ذلك يفضي إلى خرابها، وذهابها فجرى مجرى هدمها».
5- شراء الكنائس الذي تقوم به بعض الجماعات والأحزاب في الغرب والشرق لايقر ولايخدم الدعوة على المدى البعيد بل إنه يزيد من التوتر والغضب لدى الشعوب التي ترى أماكن عبادتها بالأمس قد تحولت اليوم إلى مساجد، واحتجاجهم بتحويل محمد الفاتح كنيسة ايا صوفيا لمسجد لايمكن أن يستدل به لأن سيدنا عمر رفض الصلاة بكنيسة القيامة خشية تحويلها لمسجد وفعل عمر الفاروق مقدم على فعل محمد الفاتح.
6- الإلحاح بالدعاء على اليهود والنصارى وتعميم الهلاك على رؤوس المنابر وفي الوسائل الإعلامية لايتفق مع منهج النبي- صلى الله عليه وسلم- وبخاصة أن منهم معاهدين وأهل ذمة ومواطنين وموظفين وعمالا في البيوت والأسواق والشركات، وسينعكس سلباً على شعورهم تجاهنا وتجاه ديننا القويم.
كل ذلك يجعلني أشد دهشة من تصريح صاحب الفخامة ساركوزي حينما أعلن أن الشرق الأوسط يسعى لتهجير النصارى منه بسبب حوادث طارئة لم يسلم منها المسجد والمستشفى والحوزات متجاهلاً ألفا وأربعمائة سنة من التعايش والمواقف المشتركة وضرب أروع الأمثلة للوطنية والبطولة من إخواننا النصارى في الإنسانية...