المستجدات إما أن تكون أصلا أو تبعا. وكونها تبعا أي أنها أمرٌ طبيعي يواكب تغيرا صناعيا أو تكنولوجيا كان من المستجدات الأصيلة المستحدثة على المجتمع سابقا. والمستجدات التابعة حاصلة في المجتمع لا محالة طالما أن المجتمع قد سمح بوجود المستجد الأصل المتبوع. مثال ذلك ثورة الإنترنت والفضائيات، فهي متغير تكنولوجي يعتبر مستجدا أصيلا في جزئية اختراقه حجب المجتمعات. والانفتاح الفكري والثقافي في مجتمعاتنا أمر مستجد كذلك ولكنه تابع لا أصيل فهو نتيجة حتمية لثورة الاتصالات.
والمستجد التابع لا يمكن منعه.
ولذا فالمجتمع التقليدي المحافظ يرفض كل مستجد سواء أكان تابعا أو أصلا - بنوعيه الطيب والخبيث- لخوفه من أن تكون فتنة، فالاحتياط أولى. وأما المجتمع المستقل فكريا فيتأمل في حقيقة الأمر المستجد ويميزه أهو أصيل أم تابع، ثم يجمع معطياته ويقابلها ببعضها وبنتائج ما يخرج من الأمر المستجد ثم يبني رأيه وحكمه عليه. فإن كان سيئا منعه، فمنع ما ينتج عنه من مستجدات تابعة لا يمكن منعها. وإن كان حسنا سمح به، فالتطور لا يحدث إلا بوجود المستحدثات الأصيلة النافعة.
ولا يخلو مجتمع متطور أو تقليدي من أفراد تستخفهم كل صيحة جديدة فيركبونها إما لخفة في عقولهم وإما لمصالح ذاتية - سواء مادية أو معنوية - ينالونها من المُستحدث الجديد. والمجتمعات الراقية فكريا تتجاهل أمثال هؤلاء حتى تضعف صيحتهم ويصبحون نسيا منسيا. وإما المجتمعات المتخلفة فتُستخف مع أمثال هؤلاء فتطير معهم وتصفق لهم وترقص، ولذا تكثر النكبات والفتن والمآسي في العالم الإسلامي لسهولة الاستخفاف بها عن طريق التلاعب بالعواطف الدينية.
وفي العمليات الانتحارية الجهادية وفي صيرفة الحيل المسماة «بالإسلامية» عبرة ومثل. فكلاهما أمران مستحدثان أصيلان في أساس بزوغهما، وإن كانت هناك عوامل مستجدة أخرى ثانوية ساهمت في ذلك. فالانتحار الجهادي جاء أساسا كرد على حالة عجز المسلمين وضعفهم. وهي حالة موجودة منذ قرون، بل قد كانت أشد وأسوأ من قبل. وصيرفة الحيل جاءت أساسا كرد على حالة شلل التمويلات في المجتمع الإسلامي، وهي حالة كانت منذ أن عرفت مجتمعاتنا البنوك قبل نصف قرن، وليست أمرا جديدا. وفي كلا الحالين استخفت المجتمعات الإسلامية معها، غير مقيمة لصلاح أم فساد ما سوف تجلبه من مستحدثات جديدة تابعة.
الإقدام على قتل النفس في المعارك ليس من أساليب المسلمين القتالية بل هو من صفات البوذيين خاصة كاليابانيين والفيتناميين ويأتي من بعدهم المشركون والملحدون ويندر في أهل الكتاب، فالعمليات الانتحارية الجهادية حالة مستجدة أصيلة ظهر منها حالة مستجدة تابعة وهي الإرهاب الانتحاري التي جعلت الإرهاب صامدا ومتعديا للحواجز الأمنية. فالإرهاب المطلق ليس أمرا مستحدثا، والفكر التكفيري ليس أمرا جديدا، ولذا عجزنا أن نمنع الإرهاب اليوم بينما استطعنا أن نقطع شره بعد فتنة جهيمان. فالمستجد التابع لا يمكن منعه ما لم يُمنع المُستجد الأصيل.
وصيرفة الحيل مُستجد أصيل يدعو المجتمع إلى تشريع التحايل في المعاملات وإلى الكذب في النوايا والمقاصد وإلى تعطيل العقل في المعاملات وينسب ذلك زورا وبهتانا إلى الدين ومكارم الأخلاق. هذا مستجد إن لم يمنعه عقلاء المجتمع فسيخرج عنه مستجدات تابعة خبيثة يغص بها المجتمع ويعجز عن حلها.
الفتن تبدأ صغيرة جذابة ثم تستخف معها ابتداء من سعى إليها، ثم تعود لا تفرق، فتطم وتعم فتنال الأديان والبلاد والعباد.
وإن مما سكت عنه في هذا، أن المتأمل في غالب الفقهاء المؤيدين للانتحار الجهادي وصيرفة الحيل سيجدهم مؤيدين للأمرين معا، وسيجد اتفاقهم على تحريف معاني النصوص الشرعية وعلى اتباعهم لسيناريو الاستخفاف المعهود والمتمثل في توريط المسلمين ثم التبرؤ والتنصل بالاستثناءات ودعوى الجهل.