ليست خلافات القيادات الفلسطينية جديدة. بالمقابل، ليست وحدة الشعب الفلسطيني بدعة سياسية، بل هي حقيقة وطيدة الجذور في تاريخ فلسطين وكفاحها. في التاريخ الحديث لفلسطين، تاريخ بداية القرن الماضي وحتى نهايته، كان هناك دوما فريقان: واحد يعطي الأولوية للكفاح ضد الإنجليز
ويعتبر الصراع ضد الصهاينة فرعا منه، وآخر يرى في الصهيونية خطرا يجب التصدي له كأولوية أولى، يهون بالمقارنة معها خطر وجود الاستعمار الإنجليزي في الأرض المقدسة، بينما كان الحراك الشعبي يضع الصهاينة والاستعمار في جهة واحدة ويناضل ضدهما بكل ما أوتي من عزيمة وبأس، على أرض واقعية تخلو من حسابات جزئية أو محلية غالبا، ومن أية اعتبارات أسرية أو جهوية أو اجتماعية، فهو يستشعر الخطر الجسيم الذي يعنيه بالنسبة إلى فلسطين الوطن والشعب الاستعمار ومشروعاته الصهيونية، وهو لا يقبل تغليب الخلافات الداخلية بين أطراف العمل السياسي على التناقض العدائي مع العدو المشترك. ومن غير المبالغة القول: إن شعب فلسطين لم يفقد لحظة واحدة الرؤية الصائبة لأسس صراعه مع أعدائه، ولم يضع وقته في البحث عن حقيقة كان يراها بأم عينه ماثلة أمام ناظريه، فلا يحتاج إلى من يعلمه إياها ويشرح له تعقيداتها السياسية والحزبية، لأنها واضحة بذاتها لا تعقيدات فيها رآها على نحو صادق وصائب هو التالي: هناك وطن مهدد بالاغتصاب من قبل غرباء جلبهم الاستعمار وعمل على تمكينهم منه، فليس الأمر بحاجة إلى ذكاء خاص كي يقوم الفلسطيني بواجبه، وليس المواطن المهدد في أرضه ووجوده وانتمائه بحاجة إلى من يدعوه إلى الدفاع عن أرضه والقتال حتى الاستشهاد في سبيل طرد الغاصب والمستعمر منه.
تتكرر اليوم مأساة الأمس: تنقسم القيادات الفلسطينية التي كان عليها أن تبقى موحدة، ليبقى شعبها في المعركة ويمارس أقصى قدر من التحدي للعدو، بل ويقضم وجوده في أرضه ويشككه بقدرته على ابتلاعها وحسم الصراع حولها. ومن يراقب يرى أن سنوات ما قبل الخلافات الفلسطينية، التي لم تشهد استراتيجيتين متناقضتين متعارضتين في العمل الوطني، أكدت للعدو حقيقة لم يتمكن من تخطيها إلى اليوم هي أن فلسطين لم تصبح كما أرادت الصهيونية لها أن تكون: يهودية ودولة ليهود العالم، لأن المعركة عليها لم تنته، ولأن شعبها لا يريد ولا يستطيع العيش خارجها أو بعيدا عنها، ولأنه مستعد للتضحية ببناته وأبنائه فوجا بعد فوج إلى أن يستعيدها، وينعم بالعيش فيها، لأنه لا حياة له خارجها.
ومثل الخلافات القديمة، التي لم يكن لها أي مسوغ وطني أو كفاحي، لا يفهم أحد اليوم الخلافات الجديدة، التي هي ببساطة دون مبرر، وكان حريا بأصحابها أن يبقوا عليها في إطار الاجتهادات والتباينات في وجهات النظر، التي لا يجوز أن تتحول إلى تناقضات عدائية وصراعات تتسم بالعنف، كي لا تلحق القدر الفظيع من الضرر بالقضية الوطنية، الذي وقع بالفعل خلال السنوات الخمس الماضية، وحال بينها وبين الانضواء في إطار وطني جامع يقوم على مشتركات متوافق عليها، تجمد أية خلافات بين أطراف النضال الوطني، وتوحدها ضد العدو المشترك، وتقدم رؤية واحدة تحشد من خلالها الشعب وتؤطر تضحياته في سبيل وطنه، بينما تؤجل صراعاته حول هوية النظام السياسي إلى ما بعد الاستقلال، حيث ستتكفل الحياة الحرة والانتخابات المفتوحة بحسم المسائل الفلسطينية الداخلية، التي لن يكون عندئذ للعدو أي تأثير عليها. لكن الافتقار إلى إطار جامع كهذا، وتضارب الرهانات والارتباطات، سمح بتطاحن نظرتين متناقضتين تقاتلتا بالسلاح على صدارة العمل الوطني، فخرج صراعهما عن أي ناظم وطني وتحول إلى عداء قاتل لا يشك اثنان في عالمنا العربي بأنه أدى إلى إضعاف فلسطين وإنهاك شعبها، وكاد يضيع النتائج التي ترتب على تضحيات مئات آلاف المناضلين، الذين سقطوا شهداء أو جرحوا أو فقدوا أعضاءهم، أو أمضوا الجزء الأكبر من حياتهم في السجون والمعتقلات والمنافي.
والآن: إلى متى يستمر خلاف هذه نتائجه المأساوية، تقف وراءه حسابات قوى يرى بعضها في فلسطين ورقة في يده، وينظر إليها من زاوية الربح الذي سيعود عليه من خلال مساومة ما محتملة عليها، وسيان عنده بعد ذلك إن خسر شعبها أو ربح، ما دام المطلوب أن تتحول إلى مشكلة بينه وبين أميركا وإسرائيل وأطراف في العالم العربي، تحل لحسابه وليس لصالح شعبها، فهو لن يقبل أي حل لها إذا لم يعد عليها بالنفع. السؤال الآن: ما الذي يمنع الأطراف الفلسطينية المؤيدة لهذه الجهات الإقليمية من التوافق مع غيرها من جهات العمل الوطني على حل فلسطيني صرف لخلافاتها حول جميع المسائل والمشكلات، يتم بوحدة الفلسطينيين الوطنية وما يحظون به من دعم عربي وإقليمي ودولي، على أن تعمل هذه الجهات بعد الاستقلال على أخذ السلطة انتخابيا وسلميا، وتتحالف مع من تريد في الداخل والخارج بالطريقة التي تراها مناسبة لوطنها وقضيتها؟. أما أن تفعل العكس، مثلما حصل في السنوات الأخيرة، وتسهم في قطع الطريق على استقلال بلادها وتحرير أرضها، حبا بتحالفات إقليمية لا سيطرة لها عليها، هي فيها طرف ضعيف لا صوت ولا وزن له، فهذا خطأ ما بعده خطأ وضلال ما بعده ضلال، وهو لن يوصل أحدا إلى أي شيء في نهاية المطاف، لا هذه الجهات ولا غيرها، ما دام يتيح نهجها يمكن الصهاينة من الانفراد بالأرض الفلسطينية ومن ابتلاعها على هواهم وحسب حاجاتهم، إلى أن يسيطروا بصورة كاملة عليها، فلا يبقى عندئذ أي محل لمساومات إقليمية أو لتسويات وطنية، ويخرج الجميع من الصراع صفر اليدين، وساعتها لن يفيد أحد الندم، ولن يقبله أحد منه !.
لا مبرر في أي اعتبار لخلافات الفلسطينيين، إلا إذا كانت مطلوبة بذاتها. ولا مستقبل لفلسطين إن بقيت خلافاتها، وسيضيع ما تبقى منها بينما المختلفون من قادتها يبحثون عن جنس الملائكة، ويتشاتمون ويتماحكون حول ما لا يستطيع أحد غيرهم فهمه أو القبول به.
في وطننا العربي مشكلات تسبب السكتة القلبية، على رأسها خلافات الفلسطينيين القاتلة، التي يعلم الله وحده لماذا لا تحل، قبل أن تطيح بكامل وجود وقوام الوطن الفلسطيني !.