نعيش هذه الأيام موسماً كروياً، ربما يستحسن الاستفادة منه في الاستدلال على الكثير من العادات والثقافات المصاحبة التي لا تتوقف عند كرة القدم فحسب بل تتعداها إلى الحياة العامة.
ففي هذا الموسم الكروي تكثر الندوات في القنوات الفضائية، ويكثر الجدل حول الكرة ومآسيها ومباهجها، وفي أحايين كثيرة يشترك في الندوة أكثر من خمسة أشخاص يدلي كل واحد منهم بدلوه فيما يراه جيداً أو غير جيد، وفي ظل هذا العراك الكلامي يستخلص المرء أن من عادتنا في المشرق أن نتجادل بصوت عال، وأن نقاطع المتحدث قبل أن ينهي حديثه، نجد ذلك ظاهراً للعيان، وقد تتبعت برنامجاً معيناً في إحدى القنوات، فإذا كل واحد من الحضور لا يسمح لزميله بإنهاء فكرته، ففي لحظة إيراد المتحدث كلمة تخالف رأي المستمع يرسل لسانه مقاطعاً صاحبه ومرشداً إياه إلى وجهة نظر مغايرة أو جملة رأي أن فيها خطأ يتطلب التصحيح، ولربما أن المتحدث لديه من الجمل التالية ما يفند كلام المتدخل ويصحح ما علق بذهنه في الوهلة الأولى.
لعل هذا الجدل الكروي يمكن أن يسري نمطه وأسلوبه على جدلنا في المجالس وربما على صفحات الصحف ووسائل الإعلام الأخرى، فهي عادة مزروعة قد يكون من العسير التخلص منها دون تمرين ومثابرة.
إن المقاطعة في الحديث قد تفقد الحديث معناه وقد تجره إلى منحى غير الذي عناه المحاور أو المحاورون فيتم التنقل بين الأفكار والخلط بين المواضيع حتى يكاد المستمع يخرج دون أن يصل إلى رأي كل فرد في نقطة بذاتها، ولعلها تكون فرصة تثقيفية للمشاركين والمستمعين لو أن مدير الحوار ألزم المشاركين وأجبرهم على عدم المقاطعة حتى يروضوا أنفسهم على ذلك، كما يعطي المستمعين فرصة لطرح نموذج من النقاش المفيد غير ما اعتادوا عليه، فإعطاء نماذج حية ربما أفضل أداة تثقيفية لمجتمع يحتاج إلى كثير من الثقافات التطبيقية وليس النظرية.
ومن الرواسخ لدى بعض الأفراد في منطقتنا العربية ذلك البون الشاسع بين الإدراك والتطبيق، وهذا هو لب المشاكل وسيدها. ولعل الكرة في موسمها هذا تكون نموذجاً ظاهراً في الأمر، فقد يكون فريق بعينه غير مدرك في لحظة معينة، وهذا يستوجب التمرين والمتابعة والعقاب والثواب، أو قد يكون مدركاً ومستوعباً لما هو مطلوب غير أن الداء يكمن في التطبيق، فالإدراك وحده لا يكفي، والمعرفة في ذاتها ليست سوى أداة، أما بيت القصيد فهو التطبيق بإتقان وهو ما يقصر عنه نظر بعض اللاعبين، بسبب واضح هو عدم الاجتهاد في التطبيق بإتقان، لأن الإتقان يستلزم مثابرة في التركيز عند كل خطوة ونقلة ومساندة وغيرها، ولهذا فإن المعرفة في ذاتها ليست كافية لتحقيق النتائج إذا لم يصاحبها عمل جاد ومتقن.
ومن ميدان الكرة يمكننا أن نأخذ عبرة في ميادين أخرى من الحياة، فعدد غير يسير من الناس يحفظ بعضاً من آيات القرآن الكريم أو جله أو كله، وهو أعظم معرفة يمكن أن ينالها المرء ليتربى عليها في سلوكه مع ذاته ومع غيره من جنسه البشري والأجناس الأخرى غير البشرية، ومع هذا فإن ما ناله من معرفة قرآنية وغير قرآنية نجدها في واد، وتعامله الإنساني والوظيفي والعملي واليومي في واد آخر. ولعل الأمانة والصدق والإخلاص والإتقان صفات حث عليها القرآن وأدركها قارئه غير أن البون بين الإدراك والتطبيق كبير جداً، ولهذا فإن شعوباً كثيرة في المشرق بقيت بعيدة عن مجاراة الشعوب الأخرى في الغرب أو الشرق مع أن لديها إدراكاً للمعرفة ربما يفوق غيرها، ولديها من الفرص المتاحة أكثر من أقرانها، لكنها ثقافة التطبيق العسيرة أو شبه المستحيلة لدى بعض من شعوب المنطقة، فوقع ما هو واقع، ولعل كرة القدم نموذج ذلك.