قال الدكتور غازي القصيبي -أبو سهيل رحمه الله- من جزيل درره وحكمه: (أبا خالد ما أخلف الموت موعداً = ولا فر مطلوب وطالبه الردى)، تذكرت هذه الحكمة من الحكيم السعودي العربي الراحل حينما شاهدت داخل شوارع الحي شيخاً هرماً يتحاور مع شاب في ريعان الشباب، فتوقفت بجانبهما حين لمحت تعابير وجه الفتى وكأنه يتحدث بحماس نحو المسن وتطوعت بحكم الجيرة للتدخل خشية أن تدفع فورة الشباب لسان الفتى إلى عبارات أو جمل لا تناسب مقام الرجل الجليل، فأوضح لي بعد تطييب خاطر الشيخ بكلام الحفيد للجد، أنه كان يمسح جانباً مغبرّاً من زجاج سيارته الشبابية، ويعدل من هندامه قبل ركوب السيارة، فإذا بالشيخ الذي يمشي الهوينى بما تستطيعه السيقان والركب التي أمضتها السنون يدنو منه وينصحه بترك هذه المظاهر وأن يتجه لدراسته وصلاته والعناية بأسرته فهي كما قال: (أبرك لك من الزكرته والطردي بالشوارع)!! وأضاف الفتى: أوضحت له أن الشاب يعيش سنين شبابه كما عشتموها، لكنه يصر على ترك قشور المظهر، فشكرته وها هو يمضي للمسجد.
وكما قال أبو سهيل (في رأيي المتواضع): إن الشيخ والفتى محقان، فالأول يتحدث عن تجارب عشرات السنين وما لقي فيها ومنها من خير ودونه، ومن سعادة وأقل منها، ومن همّ ونصب وركض في سبيل لقمة عيشه وأنجاله، وهو يتحدث عن ثقافة وعادات ومجتمع تختلف عن واقعها الحالي الذي يراه الفتى المقبل على الحياة، فيما الشيخ مقبل على عمل الآخرة مقتنع بتوديع الدنيا مستعد لهذا الوداع وراض به في أي لحظة، والفتى يريد أن يعبّ من نعيم وريعان الشباب وتملي عليه قناعاته أن له نصيباً كنصيب الشيخ أو أوفر بالنظر لواقع الحال بمعطياته وخيراته وعناصر المتعة المتعددة الزاخرة.
وكأن لسان حاله يرفض قول الآخر: ألا ليت الشباب يعود يوماً، إلى آخر البيت، فلا مجال للتحسر على زمن أسلفناه ونعلم أنه لن يعود بكل فتراته من سعادة أو شقاء، فالمعنى قد يكون خاصاً بحالات قليلة ولا يعني أنه يشمل كل البشر، ولم أفهم من كلام الفتى أنه يريد التعلق بالدنيا فقد أكد أن لكل مرحلة أيامها ومن الغباء أن نتجاوز إلى ما لا نستحق ومن العجز أن نقصر عما ندرك، كلام معقول، وقد قيل: حب الدنيا رأس كل خطيئة، والفتى كان يريد أن يسعد بحياته ولا يهمل واجباته جميعها الدنيوية والأخروية، والشيخ أراد له الانصراف عن الدنيا ليتبعه إلى الزهد بها، وتعارضت القناعات بتعارض الحال، ومضى كل إلى غايته وما يريد، والمحصلة أن الشيخ كان في نهاية طريق لم يزل الفتى في بدايته، ووعى الفتى المسألة التي غابت عن حكمة الشيخ في تلك اللحظة التي يتجاذب فيها مع نفسه حواراً امتد ليطال المحيطين به تحناناً وشفقة عليهم -وهو الأريب المجرب- من الوقوع في مزالق بهارج الدنيا.