تدور في الساحة الثقافية السعودية حوارات وجدال وتطرح رؤى متباينة، معظمها يسوق حلول لتحديات اجتماعية وسياسية واقتصادية، وتستشرف مستقبل حال المجتمع السعودي في إطار التطلعات لنيل مكانة مرموقة بين الأمم والوصول لوضع مطمئن لمستقبل الأجيال القادمة من المواطنين وخصوصاً عند افتقاد الميزة النسبية من الانتفاع بما تخرج الأرض من كنوز، هذا النشاط الثقافي المحتدم بات أشبه بحوار الطرشان وباتت الطاقة الكامنة به تهدر في مناطحات وصدام وإقصاء، معظمها مدفوع بسوء فهم الآخر، وسوء الفهم هذا ناتج على التباس في مقاصد الآخر نتيجة لتوظيفه مصطلحات متباينة المعاني، تمثل في معظم الأحيان منطلقات فكرية للحجج والطروحات، فالليبرالية والوسطية والعلمانية والديموقراطية والقومية والشعوبية والمناطقية والعنصرية والقبلية هي تعابير تساق للدلالة على مفهوم فكري يدعي بها أناس لا يشتركون مع غيرهم بمفهوم محدد لها، ويوصم بها أناس لا يقبلون معانيها المنشئة للتهمة، ويتبرأ منها أناس لا يدركون دلالتها، وما ذلك إلا لسيادة ثقافة الإنترنت غير المنضبطة وشيوع تلك التعابير بمفاهيم مختلفة ومتناقضة أحياناً.
في يوم الاثنين الماضي طرح الكاتب في جريدة الجزيرة عبدالرحمن الحبيب سؤالا في مقاله الأسبوعي حول « من هو الليبرالي؟ « وأجاب في ثنايا المقال إجابة متشعبة، لم يستطع القارئ استيضاح تعريف محدد لليبرالي كما هو واضح من تعليقات بعض القراء، وقبل أن يختم مقاله، ابتدع تعريفا خاصا به وهو أن الليبرالي ذلك « الشخص المؤيد للتجديد والانفتاح والإصلاح والتعددية ودعم الحريات العامة والخاصة..» ولكن هل يتفق من يدعون الليبرالية مع هذا التعريف كوصف لحالهم؟ وهل هو تعريف مقبول للمفكرين الليبراليين الذين ابتدعوا هذا التعبير؟ وهل هو أيضا تعريف مقبول لمن يجاهد الليبرالية كمفهوم مستورد مناقض للأسس الدينية؟. هذا مثال لما هم عليه المثقفون السعوديون من خلاف حول مفاهيم مركزية في تفكيرهم وطروحاتهم، وإقصائيتهم بعضهم لبعض نابعة من هذا الخلاف في الأصول الفكرية للمعاني والمصطلحات، ومثل الليبرالية هناك تعبير بات يساق كثيراً في أدبيات الحوارات الفكرية، وهو الوسطية للتعبير عن منهج متوازن بين متطرفين أحدهما متشدد والآخر متساهل في التصرف والتعامل المبني على فهم حقيقة الإسلام، فقبول الوسطية كمصطلح محدد المفهوم والتعبير يستدعي تعريفا محددا لها قائما على تعريف التشدد وتأسيس اعتراف بذلك التعريف ومن ثم تحديد المتساهل وتأسيس اعتراف بذلك ثم قبول كلا الطرفين كمنهجين تحت ظل الإسلام، ولكن هذا غير حاصل، فكل يدعي الوسطية وهم مختلفون، فهناك من يدعي وسطية بين تيارين إسلاميين أحدهما متشدد والآخر مستلين، وبعضهم يدعي أن الوسطية هي الإسلام والتطرف خروج عنه في كلا الطرفين، وهكذا نواجه نفس الإشكال عندما نتكلم عن باقي المصطلحات فالعلمانية عائمة بين معنى يقول إنها جحود للدين وتبرؤ منه، ومعنى يقول إنها هيكلة الدولة تحت سيادة رغبة المواطنين ومصالحهم، والديموقراطية بات لها معانٍ غير الاحتكام لرغبة الأكثرية، هكذا نجد كثيراً من المصطلحات التي تعج بها الساحة الثقافية غير محددة المعاني وغير متفق على مضامينها، وهو ما يقود للخلاف المركب حيث يضاف للخلاف المنهجي خلاف في المفهوم والتعبير.
نحن في القرن الواحد والعشرين، القرن الذي سيكون للمصطلحات شأن عظيم في تنظيم وتضافر الجهود البشرية في سبيل تطوير حياة البشر وتحسين بيئة الحياة بصورة عامة، فكلما بات للمصطلح معنى محدد بات في الإمكان توفير الجهود لصياغة مفاهيم متجانسة وإن لم تكن متجانسة فهي واضحة الخلاف بحيث يمكن إدارة خلافها بما لا يقود لصدام جارح. ولكن المشهد لدينا مختلف فنحن ما بتنا نستورد المصطلحات من الأمم الأخرى ونلقي عليها ثقل سوء الفهم المركب لدينا من مشاعر العدوانية للفكر الأجنبي والتشبث بخصوصيتنا، ونحن أيضا نجتر مصطلحات من تاريخنا المثخن بالخلافات المذهبية والفكرية فنجلبها بعداءتها وتناقضاتها، وفي كلتا الحالتين نتعسف على تلك المصطلحات لتلائم طروحاتنا المتناقضة، فنحن نريد أن نتقدم ولكن نريد أن نحمل معنا للمستقبل مفاهيم ثقيلة تجاه الحياة والعلاقات الإنسانية والتعاون الأممي والتسامح مع التعدد المذهبي ومعتقدات الآخرين. لذا فالمطلوب هو قيام جهات ذات مصداقية مقبولة بصياغة تعبيرية للمصطلحات بحيث لا يكون ثمة خلاف على مدلولها بمقدار الخلاف على توظيفها، هذا سيقود لحسم كثير من الجدل المنهك للطاقات الفكرية.