لفهم « السعودة» علينا البحث عن مفهوم مقابل له في البلدان الأخرى. وقياساً على مقولة «الأقربون أولى بالمعروف» فهل هناك مفهوم «القطرنة» نسبة إلى قطر أو «البحرنة» نسبة إلى البحرين «أو التكويت» نسبة إلى الكويت أو «العرقنة» نسبة إلى العراق أو «اللبننة» نسبة إلى لبنان وصولاً إلى «الأمركة» بلاد العام سام. قد يكون هناك مرادف لمفهوم السعودة في هذه البلدان وغيرها من بلدان العالم وإن كان بمصطلح آخر. على أن هذا المفهوم لدينا قد اكتسب معنى مفاده أن إحلال المواطن السعودي محل الوافد في جميع مرافق الدولة قد أصبح ركناً أساسياً من ركائز التنمية البشرية لدينا. وقد سنّت الدولة قوانين وتشريعات كثيرة تنظم هذا الجانب ومافتئت وسائل الإعلام لدينا تؤكد على هذه السياسة. وبطبيعة الحال فإن مفهوم السعودة مرتبط بشدة ببنية الدولة وهيكليتها وآلياتها في العمل والإدارة والتطوير.
لا أحد يختلف على أن تسلّم أبناء الوطن لزمام أمور إدارة البلاد في كل صغيرة وكبيرة هدف شرعي وسام وحق سيادي لكل دولة مافتئت الأجهزة الإعلامية لدينا تؤكد عليه في كل مناسبة، لدرجة أصبح معها المصطلح من مكونات الهوية الإعلامية لدينا بكل أشكالها. غير أن المشكلة - كما هو الحال دوماً - تكمن في آليات التنفيذ. فالفارق شاسع بين رسم الهدف وآليات تنفيذه على أرض الواقع.
يتطلّب مفهوم السعودة إجادة الفرد السعودي المراد إحلاله محل الوافد لمهارات معيّنة، وعندما تتوفر هذه المهارات تكون السعودية قد نجحت في هدفها بالرغم مما قد يثار من قلة خبرة المواطن المعيّن حديثاً أمام خبرة سابقه الوافد، غير ان الزمن وصقل التجربة والمهارة في ظل نظام إداري فعال كفيل بردم هذه الهوّة.
لكن المشكلة تكمن عندما يتم تطبيق مفهوم السعودة قسراً بدون التمعن في نتيجته. فإدارة الدولة الحديثة تتطلّب مهارات ليست بحكم الثقافة والتجربة والممارسة متوفرة لدى كل أبناء الوطن. هذه حقيقة لا أعتقد انها بحاجة إلى مزيد من الإيضاح. ولذلك فإنّ إسناد كثير من المهام والوظائف الحيوية لأبناء الوطن - وهذه ليست نقيصة في حق أحد - لا يمتلكونها فيه تعطيل لمصالح الدولة ووضع لموارد الدولة ومصالحها في غير محلها، أو كما قال المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
الحديث هنا ليس عن الوظائف التي لم نعهدها كسعوديين والتي لا ترتقي أصلاً إلى الحد الأدنى من المعايير المقبولة للناس ولكن الحديث هنا هو عن تلك الجحافل المتتالية من المسميات الوظيفية التي ما إن تسمعها حتى ليخال اليك أنك أمام فتح جديد في مفهوم الإدارة وعندما تترجم الوظيفة إلى أرض الواقع فإنها لا تعدو ان تكون تسمية أخرى لوظيفة أخرى مشابهة. وكما قال البعض فهي بطالة مقنعة تحت تعدد مسميات الوظائف. ونظرة واحدة على المكاتب المكدّسة في كثير من الدوائر الحكومية أو مجرّد الاستماع إلى نشرة الأخبار الرئيسية في القناة الأولى مساء كل يوم اثنين كفيل بإدراك هذا الجانب.
الحديث عن السعودة يعني الحديث عن الوظيفة والحكومية منها بشكل خاص. فقد ارتبطت السعودة بالوظيفة الحكومية وأصبح الاثنان يعبران عن مضمون واحد. إن ارتباط السعودة بكيان الدولة وجهازها الإداري يحيل الدولة ليس إلى جهاز لخدمة الناس كما يفترض، ولكنه يحيلها إلى جهاز هو أشبه بالجمعيات الخيرية التي تهتم برعاية أعضائها أكثر من اهتمامها بكفاءتهم ومثابرتهم على العمل وتفانيهم في خدمة الناس من مواقعهم وإنتاجيتهم. وهنا يحدث الخلل، فعندما يدرك الفرد المعيّن حديثاً بحكم العرف والثقافة، أن الوظيفة الحكومية تعني دخلاً ثابتاً مضموناً بغضّ النظر عن اعتبارات الكفاءة والتفاني في العمل والإنتاجية، تتحوّل الوظيفة لديه إلى روتين يومي، وفي غياب الإدارة الخلاقة تتحوّل الوظيفة بمرور الزمن إلى معطّل للتنمية بدلاً من أن تكون باعثاً عليها. وهذه تحديداً هي المشكلة التي تعاني منها الدول التي تعتمد الأداء الحكومي لأجهزتها. وهي مشكلة ليس من السهل التغلب عليها لأن ذلك يعني إعادة النظر في الجهاز الإداري للدولة برمّته، مع ما يصاحب ذلك من صعوبات ونتائج لا يمكن التنبؤ بها.
وسط هذا الوضع فإنّ السعودة المدروسة الممنهجة، وإحلال المواطن مكان الوافد بالتدريج وحسب خطط تنموية مدروسة، في ظل نظام إداري يأخذ في اعتباره مفاهيم الإدارة الحديثة التي تهتم بالإنتاجية والكفاءة والتطوير وشحذ الهمم وإعطاء الحوافز، بعيداً عن القرارات المرتجلة، من شأنها أن تحقق مفهوم السعودة كما يراد له من قِبل الدولة ومن قِبل أفراد المجتمع.
* أستاذ العمارة والفنون الإسلامية بجامعة الدمام