هل لنا أن نتصور أن تنعزل دولة من دول العالم عن قضايا وشؤون الدول الأخرى على كوكبنا: «الأرض»؟ هل يمكن أن ننسى «حمى الخنازير» في العام قبل الماضي؟ وهل يمكن أن نتجاهل أمر انتشار الأمراض، المستعصية منها على وجه الخصوص، مثل مرض الإيدز الذي عانى منه العالم ولا يزال يعاني منه في قرننا الحالي؟ العالم يعتبر قرية واحدة أو مجاورة واحدة يتأثر كل جزء منه بما يحدث في الجزء الآخر، ولم يعد أحد بمعزل عن مجريات الأمور كوكبياً. وتسعى الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، نحو التصدي لقضية انتشار الأمراض خلال مساهمتها مع منظمة الصحة العالمية، ولكن مساعيها لن تكلل بالنجاح ما لم يكن هنالك ثمة استراتيجية دولية للشأن الصحي وما لم تصدق نواياها في التعامل مع شعوب العالم المستضعفة، وتلكم الدولة يمكن أن يقال بشأنها المقولة «يجرح ويداوي» صحيح أن رؤساءها، من بين فينة وأخرى، يطالبون الكونجرس الأمريكي بتخصيص مبالغ كبيرة في ميزانية دولتهم السنوية من أجل الإسهام في الصحة العالمية، ولكنهم يرصدون أموالا أكثر بكثير للترسانة العسكرية وللتدخلات في شؤون الغير شرقا وغربا.
ومثال من نوع آخر كوريا الشمالية التي تجوَع شعبها وتغدق الصرف على ترسانتها العسكرية. ففي الشرق مثلما في الغرب يشبع من يشبع على حساب من يجوع، أما مبدأ «لا يجوع الذئب ولا تفنى الغنم» فليس متحققا على أرض الواقع. ويقال: «خل الناس تأكل» ويا ليت الذي يأكل من يحتاج الأكل ولكن يأكل أصحاب العقول الخاوية والبطون البارزة. ولو تم صرف معشار ما يصرف على الحرب لأغراض سلمية، ومنها مكافحة المرض والجهل، لتحققت نجاحات عظيمة في مناطق متعددة من العالم.
يحصد مرض نقص المناعة الطبيعية «الإيدز» قرابة 26 ألف طفل يوميا في العالم. والمحزن أن العديد من شعوب العالم تموت من جراء أمراض يمكن علاجها ولكنها شعوب فقيرة يستعصي عليها ثمن الدواء وإمكانات العلاج. ولو أمعنا النظر عالميا لوجدنا أن على رأس القائمة أمورا مثل: صحة الأطفال والأمهات الحوامل والتخطيط العائلي والأمراض المتفشية في المناطق المدارية والاستوائية. وإن كان ثمة مبادرات دولية للتصدي لأمثال هذه القضايا فلابد من تبني منحى شمولي لمحاربة الأمراض وتحسين الوضع الصحي العام وتدعيم الأنظمة الصحية وتطويرها.
ولهذا فإن بعض الدول تعتبر الاستثمار الصحي على المستوى العالمي جزءاً من إستراتيجيتها الأمنية الوطنية، ألسنا نسمع بمفهوم «الأمن الغذائي»؟، لم لا يكون هنالك «أمن صحي»؟ أليس الغذاء والصحة مرتبط أحدهما بالآخر؟ إذا كان النقص في الغذاء يسبب المجاعات ومن ثم الاضطرابات في الدول، فكذلك الأمراض وتوطنها ومن ثم انتشارها تنال من الاقتصاد الوطني وتستهدف الكيان الأسري وبالتالي المجتمعي. ويمكن أن نستنتج وجود تدهور بيئي عام من خلال التدهور في الوضعين الغذائي والصحي أو في أحدهما.
دعونا نتناول الأمر بشيء من الشفافية والمصارحة فنقول: إن المجتمع يخسر كثيراً إن ركز في مصروفاته على الجانب العسكري على حساب الجانب الصحي، والخسارة تتمثل في أن التدهور الصحي، الناتج من أسباب عديدة، يحدث فجوات في الوضع الاقتصادي، ويتعدى ذلك ليصل إلى التأثير سلباً على «الاستراتيجية الأمنية الوطنية»، التي يصرف المجتمع الغالي والنفيس من أجل تحقيقها، لسلامة الوطن ومواطنيه.
وتعنى المؤسسات العلمية الممثلة في الجامعات ب»الصحة الكوكبية» من خلال ما تنشئ من كليات ومعاهد ومراكز تعليمية وبحثية، ويضرب المثال هنا بكلية الصحة العامة بجامعة هارفارد Harvard School of Public Health وبمعهد هارفارد للصحة الكوكبية Harvard Institute for Global Health. وتمتد الاهتمامات الأكاديمية في هذا الشأن من المناعة إلى علم الأوبئة إلى علم الصحة الكوكبية والسكان. نريد من جامعاتنا أن تعمل على إنشاء أقسام أكاديمية ومراكز مماثلة للعناية بالصحة الكوكبية وتوطين الخبرات في مجال التربية الطبية للصحة الكوكبية. كما آن الأوان، في نظري، لأن ينشئ في بلادنا مركز للكوارث الطبيعية والأمراض الوبائية، ويمكن أن يطلق عليه: «المركز الوطني للكوارث الطبيعية والأمراض الوبائية».