|
في هذا العصر الذي تلاشت فيه الجغرافيا بذوبان الحدود، وأصبح العالم قرية كونية صغيرة يتأثر كل جزء فيه بما يحدث في الأجزاء الأخرى، يقع على عاتق قادة الفكر في كل بلد مهمة الحفاظ على الحدود الثقافية التي وإن كانت لا تمانع من التثاقف مع الآخر والاستفادة منه، إلاّ أنها لا تسمح بالذوبان وانسلاخ الهوية في هذا المجتمع العالمي. لما لمثل هذا الذوبان من إفرازات سلبية خطيرة لا تنحصر فقط في الجوانب الاجتماعية، بل تتعدّاها لتشمل الجوانب الأمنية والاقتصادية والدينية.
وعندما نتحدث عن قادة الفكر، فإنّ أنظارنا تتوجّه للوهلة الأولى إلى محاضن هذا الفكر وهي الجامعات. ومن أهم صور حضانة الفكر هي الجمعيات العلمية التي تعنى بالبحث العلمي ونشر المعرفة. ومع إيماني التام بأهمية هذه الجمعيات، إلاّ أنّ من بين هذه الجمعيات العلمية جمعيات لا ينحصر دورها في التعاطي مع العلم والمعرفة. بل ينعكس دورها الذي تلعبه إن إيجاباً وإن سلباً على المجتمع هوية وأمناً.
وهنا تقف الجمعية التاريخية السعودية شامخة، لكونها المعنية الأولى من بين هذه الجمعيات. فالتاريخ هو ذاكرة الأمة. ولكن هذه المقولة لا تعني انحسار التاريخ في الماضي وعدم صلته بالحاضر. لا نمثل هذه النظرة الخاطئة للتاريخ هي التي قادت إلى عدم فهم الكثيرين للتاريخ ودوره في الحاضر، بل وفي المستقبل. فعن طريق الماضي نستطيع فهم الحاضر وعن طريق فهمنا للحاضر نستطيع صناعة مستقبلنا. وتشتد الحاجة إلى التاريخ كتخصص، عندما نعي هذا الانفتاح الإعلامي المنقطع النظير، والذي قد يقود البعض إلى ما أسماه عالِم النفس المشهور اريكسون «أزمة الهوية». فالعلاقة بين الخاص والعام بحاجة اليوم إلى محافظة أكثر من أي وقت مضى. وهنا يكون التاريخ والمؤرِّخون هم القادرين على خلق هذه الموازنة بين الخاص والعام.
ومن أهمية دور التاريخ والمؤرخين، تبرز أهمية ذلك الوعاء العلمي الذي يضمهم ألا وهو الجمعية التاريخية السعودية. حيث أنشئت هذه الجمعية ابتداءً من العام 1404هـ حين قام أعضاء هيئة التدريس بقسم التاريخ، بإنشاء هذه الجمعية الجديدة، حين تقدموا بلائحة جديدة مقترحة للجمعية وافق عليها المجلس العلمي لجامعة الملك سعود في سنة 1405-1406هـ. حينها انطلقت هذه الجمعية المباركة لتلعب دورها المناط بها، تحت قيادة أعضاء مخلصين لتخصصهم ووطنهم، وعضوية كوكبة من مؤرّخي ومؤرّخات هذا الوطن المعطاء. كما فتحت الجمعية التاريخية السعودية أبواب عضويتها للكثير من أعضاء بعض الأقسام الملتصقة بالتاريخ كقسم الحديث والجغرافيا ...الخ، ولم تقتصر العضوية على هؤلاء، بل حرصت الجمعية على استقطاب المميزين في الكثير من الجوانب إلى عضويتها، إيماناً منها بأهمية الدور العلمي والوطني الذي ستلعبه هذه العقليات المتميزة.
وإذا كانت الفترة الماضية لم تشهد تحدياً كبيراً لهذه الجمعية المتألقة، فإنّ الأمر مختلف اليوم. فمن ناحية فإنّ العولمة وإفرازاتها تحتم على هذه الجمعية التفاعل الأكبر من أجل خدمة الوطن وقيادته. تلك الخدمة التي لابد أن تأخذ في اعتباراتها العديد من الجوانب. فبالإضافة إلى الجانب العلمي يأتي جانب الهوية الوطنية. فبإمكان هذه الجمعية أن تكون أحد أهم المؤسسات التي تحافظ على هويتنا الوطنية وتقيها من الذوبان. ومن هنا تأتي أهمية دعوة الجمعية في لقائها الثالث عشر الذي عقد مؤخراً في الرياض، لتفعيل دعوة الأمير سلمان بتدريس التاريخ الوطني في الجامعات السعودية. كما أنّ جانب الأمن الفكري يقع في صميم عمل الجمعية. فعن طريق التاريخ ودروسه نستطيع أن نحقق الأمن الفكري لشبابنا ضد الكثير من الحركات الهدامة على اختلاف صورها. وهذا لا يعني أن نلغي البعد العالمي للحضارة الإنسانية. فعن طريق أخذ هذا البعد في الحسبان، تستطيع الجمعية التاريخية عن طريق نشاطاتها التاريخية المساهمة في دعم الحوار بين الحضارات، وإيضاح رسالة الإسلام السمحة. والحقيقة أنّ هناك الكثير من الجوانب الهامة التي لابد على الجمعية من أخذها في الحسبان نظراً لمتطلّبات العصر والتي لا يتسع المجال لها هنا.
وعند الحديث عن الجمعية التاريخية ونجاحاتها، لابد من ذكر رائد هذه النجاحات وهو أمير المؤرِّخين والرئيس الفخري للجمعية صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله -. فالأمير سلمان والجمعية التاريخية السعودية وجهان لعملة التاريخ في وطننا الغالي. ولا يمكن أن نتصوّر نجاحاً لهذه الجمعية دون دعم سموه الكريم. هذا الدعم الذي يأتي من إيمان سموه بأهمية التاريخ ودوره ودور المؤرّخين في المجتمع. هذا الدعم الذي يتجلّى ليس فقط في دعمه المادي السخي، بل وفي دعمه المعنوي أيضاً. حيث صدر توجيه سموه الكريم الذي استقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة الجمعية وزوّدهم بالكثير من التوجيهات الكريمة القيّمة. كما وجّه سموه الكريم دارة الملك عبد العزيز بالتنسيق المشترك مع الجمعية، لدعم وتفعيل الدراسات التاريخية في المملكة، وطباعة ونشر جميع ما يصدر عن الجمعية التاريخية السعودية.
كما يحرص سموه على الرقي بالدراسات التاريخية عن طريق دعمه المتواصل للباحثين والمؤرّخين بجوائز علمية قيّمة، في طريق تشجيع البحوث التاريخية. وعن طريق إنشاء مجموعة من الكراسي العلمية في الجامعات منها كرسي سموه الكريم لدراسة تاريخ الجزيرة العربية في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود، وكرسي الملك عبد العزيز لدراسات تاريخ المملكة في قسم التاريخ والحضارة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكرسي سموه لدراسة تاريخ مكة المكرمة في قسم التاريخ بجامعة أم القرى.
كما لا يغفل علينا كأبناء لهذه الجمعية، أهمية الدور الذي تلعبه الجامعة الأولى والمميّزة جامعة الملك سعود ومهندس تميّزها معالي الأستاذ الدكتور عبد الله العثمان في نجاح هذه الجمعية، حيث احتضان الجامعة لهذه الجمعية ودعم معاليه المستمر لها. وهذا لا يستغرب على معاليه لما عُرف عنه من العمل الدؤوب وبوطنية منقطعة النظير. حيث قال معاليه خلال رعايته نيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض مساء أمس بمقر الجامعة، اللقاء العلمي الثالث عشر للجمعية التاريخية السعودية بعنوان «الجزيرة العربية: تاريخ وحضارة»: أنّ رعاية الأمير سلمان لهذا اللقاء ليست مستغربة وهو المحب للتاريخ، مضيفاً بأنّ سموه يعد الأب الروحي لهذه الجامعة منذ أكثر من أربعة وخمسين عاماً على امتداد عمرها حيث قدم لها كل شيء ومن ضمنها تبرعه بأكثر من ستة ملايين متر مربع لأرض الجامعة، ولا زال يرعى هذه الجامعة كل يوم. وبيّن معاليه أنّ لقاءات الجمعية التاريخية نقاط مضيئة على طريق الدراسات المتعلقة بتاريخ الجزيرة العربية.
هذا ويعتبر سعادة الأستاذ الدكتور عبد الله الزيدان وأعضاء مجلس الإدارة القلب النابض للجمعية. فعن طريق إيمان هذا الرجل برسالة الجمعية وحسه الوطني من ناحية، وعن طريق سعة صدره واستيعابه للجميع، استطاع الدكتور الزيدان أن يدير دفة هذه الجمعية بنجاح. ومن شاهد سعادته في الجلسة الختامية لأعمال الجمعية التي اختتمت يوم الخميس الماضي في فندق مداريم كراون بالرياض يعي ما أقول. حيث كان الدكتور عبد الله بمثابة الأخ الأكبر لجميع الأعضاء. فقد أجاب على أسئلتهم واستقبل ملاحظاتهم بصدر رحب. ومما لاشك فيه أنّ الكاريزما والأريحية التي يتمتع بها الدكتور عبد الله وراء نجاح سعادته مع جمعيتنا الغراء.
وأخيراً وليس آخرا يأتي أعضاء هذه الجمعية والذين يشكلون العمود الفقري لها. ومن حسن طالع هذه الجمعية وجود كوكبة من هؤلاء الأعضاء المتميزين من الجنسين المؤمنين برسالة جمعيتهم، والمتحمسين لهذه الرسالة التاريخية والوطنية. إنّ وجود هؤلاء الأعضاء هو النجاح الفعلي للجمعية التي استطاعت أن تضمهم إلى عضويتها. فهنيئاً للوطن بهذه العروس المتألقة، وهنيئاً لها بهؤلاء المؤمنين برسالتها ودورها في المجتمع وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله -.