ما إن أقمت ليلة واحدة في الرياض، بعد العودة إليها من سفري إلى سراييفو، حتى استأنفت السفر منها متوجهاً إلى الجزائر، التي هي وطن جهاد تكلل بنجاح ثورته العظيمة المباركة في نيل استقلاله من مستعمر أعتى ما كان طغياناً وجبروتا. وكانت
انطلاقة تلك الثورة، عام 1954م، بمثابة بعث أمل للجيل الذي أنتمي إليه؛ وبخاصة أنها انطلقت بعد ست سنوات من وقوع النكبة التي أصيبت بها أمتنا عامة في فلسطين، وأدت إلى قيام الدولة الصهيونية على أرضها الغالية. لذلك لم يكن غريباً أن كتبت - بوحي من وهج تلك الثورة - عدة قصائد قبل التحاقي بالجامعة؛ مشيداً ومفتخراً بها وداعياً إلى مناصرة أبطالها. وكانت تلك الإشادة وذلك الافتخار وهذه الدعوة هي موقف وطننا العزيز؛ قيادة وشعباً، كما هي موقف أمتنا على العموم في مختلف أقطارها.
ولقد سعدت كل السعادة بالسفر إلى الوطن الجزائري المجاهد الحبيب إلى نفسي مرات عديدة؛ مشاركاً في ندوات علمية أو في مهرجانات ثقافية. وكنت عند نهاية كل سفر إلى تلك الربوع أود لو كانت مدة الزيارة لها أطول مما كانت. وفي زيارة من أوائل تلك الزيارات ألقيت محاضرة في تلمسان عن تاريخ المملكة العربية السعودية. وفي زيارة من أواخر زياراتي لتلك البلاد ألقيت محاضرة عن العلاقات بين المملكة والجزائر بعنوان «ملامح من العلاقات بين بلدين مُتوادَّين»، مشيراً - من بين ما أشرت إليه فيها - إلى وجود شّبهٍ في الأساس الذي قامت عليه نهضة كلٍ منهما من الناحية الفكرية. وبين هاتين الزيارتين دعيت من قِبَل وزارة المجاهدين بالتنسيق مع اتحاد كتاب الجزائر للمشاركة في مهرجان أقيم في العاصمة الجزائرية بمناسبة مرور أربعين عاماً على الاستقلال تحت شعار: «الجزائر.. أنشودة المجد». فكتبت قصيدة بعنوان: «أنشودة المجد»، وألقيتها في ذلك المهرجان.
وفي مستهل تلك القصيدة قلت:
في مقلتي إلى مرأى حماك ظما
يا موطناً في ذُرا الأمجاد عَزَّ حِمَى
وفي فؤاديَ شوقٌ لم يَحلَّ به
ركبُ الجديدين إلا زاده ضرما
وذو الغرامِ وإن ألوى المشيبُ به
يَعبُّ كأسَ تباريح الهوى نهما
وإن تخنه قوى التعبير عن وَلَهٍ
بدا بعينيه ما في القلب وارتسما
وأبلغ القول إعراباً وأصدقُه
إذا التقى الصبُّ من يهواه بوحُهما
وكان ختام تلك القصيدة:
أنشودةَ المجد... ما أحلاك حاضنةً
ذكرى انتصارك طرفاً ملهِماً وفما
مليحةً ترتدي في يوم زينتها
ثَوبَ الوِئامِ قَشيبَ اللونِ محتشما
وأجملَ الفرحةَ الكبرى مُعطِّرةً
بمستطابِ نداها الدينَ والرَّحِما
أنتِ العظيمةُ أمساً جَلَّ تَضحيةً
وأنتِ أَجدر أن ترعي له الذِّمما
مُدِّي جناحَك في الأرجاء مَرْحَمة
وأَمطري فوق محروس الثرى كرما
وما بين مستهل القصيدة وختامها مقاطع ستكون - إن شاء الله - ختاماً لهذه المقالة.
أما سفرتي الأخيرة إلى العاصمة الجزائرية الجميلة فكانت للمشاركة في الندوة السنوية، التي أقامها منتدى الفكر العربي بالتنسيق مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في الجزائري المضيافة. وكان موضوعها الرئيس: «التربية والمواطنة». وإلى جانب ذلك كانت هناك مائدة مستديرة فكرية بعنوان «المشروع الحضاري العربي ودوره في التكتلات العالمية». وقد افتتحت الندوة في صباح يوم الاثنين الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي، وتواصل العمل فيها ظهر ذلك اليوم ومساءه، كما استمرت المناقشات في اليوم التالي. أما اليوم الثالث فكان للهيئة العمومية في المنتدى اجتماع في مسائه عرضت فيه مسيرة المنتدى خلال العام الذي تؤذن شمسه بالأفول، وناقش الحاضرون ما رأوا أنه جدير بالمناقشة.
وكان الكرم الجزائري في أسمى تجلياته طوال إقامة المشاركين في اللقاء المنعقد على أرض ذلك الوطن المضياف. ومن صور ذلك الكرم المتجلي إقامة وزير الخارجية الجزائري مأدبة عشاء كبرى للمشاركين القادمين من أقطار عربية مختلفة. وقد حضر تلك المأدبة شخصيات جزائرية رفيعة المستوى في ميدان السياسة؛ إضافة إلى السفراء العرب في العاصمة الجزائرية. ومن سعادة كاتب هذه السطور أن أتيحت له فرصة إلقاء قصيدته، التي سبق أن كتبها بعنوان: «أنشودة المجد».
أما سفير وطننا العزيز.. المملكة العربية السعودية.. الدكتور سامي الصالح فمن كرمه ولطفه أن أقام مأدبة عشاء للسعوديين المشاركين في الندوة. وقد حضر تلك المأدبة جميع الإخوة السعوديين العاملين في السفارة والملحقية الثقافية؛ إضافة إلى سفراء دول مجلس التعاون. وكان من تَفضُّل أخي الكريم الأستاذ عبدالمحسن الشبانة، الملحق الثقافي السعودي عليَّ بالذات أن اصطحبني إلى عدة أحياء في العاصمة الجزائرية. وكان من حسن الحظ أن انعقاد ندوة منتدى الفكر العربي تزامن مع افتتاح معرض الكتاب. فكانت هناك فرصة جميلة مفيدة لزيارة المعرض، الذي رأيت فيه ما سرَّني من إقبال كثير ممن زاروه على جناح وطننا العزيز، ولطف القائمين عليه في تعاملهم مع أولئك الزائرين له.
أما بعد كل ما سبق الإشارة إليه فهأنذا أورد المقاطع من قصيدة «أنشودة المجد»، التي رأيت أن تكون خاتمة هذه المقالة؛ وهي:
أنشودةَ المجد.. يا ثَغراً تَعشَّقه
مِنِّي الجنان بديعَ السِّحْر مبتسما
أتيتُ أَحملُ صفوَ الحب من وَطَنٍ
يَضمُ طَيبةَ في بُرَديه والحرما
آيُ الهدايةِ في رَبْعيهما نزلت
نوراً به ماد ركنُ الجهل وانهدما
وبين أحضانه نَجدٌ نَسيمَ صبا
مُعطَّراً بعَرارٍ في التِّلال نما
وجئتُ نهرَ ودادٍ جاد منبعَه
غَيثٌ من الأمنيات الممرعاتِ هَمَى
أنشودةَ المجد.. يا أنشودةً صدحتْ
بها مواكب عُشَّاق العلا نغما
عشقتُ - منذ الصبا - مَغْناك ملحمةً
من الإباء وسِفْراً يزدهي شمما
صحائفاً ناصعاتِ الذكر أسطرُها
سَمتْ حروفَ جهادٍ وارتقتْ كلما
كان الأمير.. وما كانت بطولته
إلا المنارَ بدرب النصر والعَلَما
وكان فكر ابن باديسٍ بدعوته
إلى الأصالة فكراً يَحفزُ الهمما
قُطبان في فلك التاريخ كم سعدت
غُرُّ الكواكبِ بالتَّطْوافِ حولهما
أنشودةَ المجد.. يا أسطورةً دفعتْ
مَهْرَ التحرُّر من جور الطغاة دما
وثورةً ما انثنى أبطالُها خَوَراً
عن الوَغَى أو تفادوا خوضها سأما
مَضَت شهيداً يُغذِّيها فَيخلفُه
من بَرَّ بالوعد إقداماً ومقتحما
حتى عَلَتْ في صباح النصر ألويةٌ
جَذْلى تُقبِّل أرضاً حُرَّة وسما