يكشف بركان ويكيليكس كيف أن كثيراً من المنظرين العرب لا يستطيعون إدراك الأنماط الغربية وخلفيتها الفكرية والقانونية والاجتماعية ومن ثم التطبيقية، حين يكرر كثير منهم التأكيد أو الاشتباه بأن وراء تسريبات
ويكيليكس مؤامرة منظمة.. فلنستعرض الحجج الرئيسية لذلك.
الحجة الأولى هي أن الدافع مشبوه بالاستناد على مبدأ من المستفيد ومن المتضرر. كثيرون يرون إسرائيل مستفيدة أو أقل المتضررين، البعض يتطرق لمؤسسات أمريكية مستفيدة من التسريبات، والبعض يزداد في عروبته التخييلية ويحكي عن هدف خلق بلبلة وفوضى خلاقة من أجل إعادة ترتيب المنطقة..الخ. طبعا، هذه التسريبات تؤجج أي خيال، فهي أكبر تسريبات لوثائق سرية في التاريخ.
إلا أن أصحاب الحجة الأولى ينسون أن ويكيليكس تعتبر نفسها مؤسسة مجتمع مدني تدافع عن الشفافية والمكاشفة كحق من حقوق الإنسان، وتشجع تسريب المعلومات السرية لمحاربة فساد الحكومات والشركات. وهي بذلك تلقى دعماً معنوياً من منظمات حقوقية ومفكرين وفنانين، وحازت على جوائز عالمية، مثل تلك التي منحتها منظمة العفو الدولية كجائزة وسائل الإعلام لفضح «القتل خارج نطاق القضاء والاختفاء» في كينيا.
إلى وقت قريب كان موقع ويكيليكس يشبه موقع ويكيبيديا حيث يمكن لأي شخص إرسال موضوع وتحريره. ويستطيع المسربون إرسال وثائق مجهولة وغير قابلة للتقصي ويمكنهم النقاش العلني وتحليل الوثائق والتعليق على مدى مصداقيتها وصحتها. كما يمكن للمستخدمين مناقشة التفسيرات وسياق الأحداث وصياغة المنشورات بالتعاون مع الناشرين. ويمكن للمستخدمين قراءة وكتابة مقالات توضيحية على التسريبات من ناحية خلفية الموضوع والسياق، وتقدير الأهمية السياسية للوثائق التي يتم الكشف عنها من خلال آلاف المشاركات.
الحجة الثانية هي أن هذا الكم الهائل من المعلومات السرية وسرعة انتشارها المذهلة لا يمكن القيام بها إلا من خلال مجموعة ضخمة ممولة بسخاء وفائقة التنظيم والحماية، وهذا لا يتوفر إلا من جهة رسمية مستفيدة أو من مؤسسات تجسسية واستخبارتية ضخمة.
من ناحية ضخامة المعلومات وسعة الانتشار فنحن في زمن التكنولوجيا الرقمية، بضغطة زر يمكن إيصال أضخم الملفات للعالم أجمع. أما اختراق المواقع السرية فقد رأينا أن مراهقين وشباب سبق أن تمكنوا من اختراق أشد الحواجز مناعة.. وكما جاء في الجارديان الأسبوع الماضي بأن بطاقة ذاكرة صغيرة «فلاش ماموري» واحدة، سببت صداعا في رأس الولايات المتحدة. وشرح الصحفي ديفيد ليه كيف وقعت بطاقة ذاكرة لا يعدو حجمها ظفري اصبعين، في يد مراسل للجارديان مطلع العام. إلا أن ما كان على بطاقة الذاكرة تسبب بضربة كبيرة للدبلوماسية الأمريكية. إذ حملت ملفات بحجم 1.6 جيجابايت ملايين الكلمات التي شكلت محتوى 251.287 ألف برقية مسربة أرسلت من السفارات الأمريكية حول العالم وإليها.
أما من ناحية التمويل فككل مؤسسات المجتمع المدني غير الربحية تمويلها من التبرعات. كما أن الميزانية ليست كبيرة، فوفقا لمقابلة في يناير 2010، فإن فريق ويكيليكس يتألف من خمسة أشخاص يعملون بدوام كامل، وحوالي 800 شخص من غير المتفرغين، وجميعهم بلا رواتب. وتقدر مصروفات ويكيليكس سنويا ما يقرب من مائتي ألف يورو، وستصل إلى ستمائة ألف.
ولنأخذ مثالا على بساطة العملية، المشتبه الأول (وربما الوحيد) بتسريب الوثائق الأمريكية هو برادلي ماننج، وهو محلل للمعلومات الاستخبارتية، يقول ماننج في محادثة بينه وبين أحد قراصنة الإنترنت: « العملية في غاية البساطة. إذ أمكنني أخذ شريط موسيقي باسم شيء كالمغنية الليدي جاجا، ثم أمحو محتواه الموسيقي، وانسخ الوثائق بعد ضغطها. لم يشتبه أحد بشيء».
وقال ماننج: «ستصاب هيلاري كلينتون وعدة آلاف من الدبلوماسيين بنوبة قلبية عندما يستيقظون صباح يوم ما، ويجدون كل الوثائق الدبلوماسية السرية متوفرة، ويمكن البحث عنها، من قبل العموم»، مؤكداً على أن « المعلومات يجب أن تكون حرة، فهي ملك للقطاع العام».
الحجة الثالثة لنظرية المؤامرة هي: كيف يمكن لهذه الأعمال غير القانونية أن يسمح بها في دول لها قانون ونظام، بينما أعضاؤها يسرحون ويمرحون بلا رادع. طبعا هذه الحجة بدأت تضعف كثيرا لشدة ما يتعرض له مؤسس الموقع جوليان أسانج من مطاردة. إلا هذا لا يمنع أن يوضح الوضع القانوني للموقع.
فحتى قبل ثلاثة أيام كان مقر شركة ويكيليكس في السويد (قبل أن تنتقل إلى سويسرا)، حيث القانون هناك يمنح الشركة وضع صحيفة، أي وضع»آمن للغاية وبلا توجيه أسئلة خدمات الاستضافة»، ويمنحها الحماية القانونية لكشف الوثائق السرية على الموقع. والدستور السويدي يعطي مقدمي المعلومات الحماية القانونية الكاملة، ويمنع أية سلطة حكومية من إجراء تحقيقات عن مصادر المعلومات لأي نوع من الصحف. وويكيليكس تصف نفسها بأنها «نظام غير خاضع للمساءلة على مطبوعاتها وغير ملاحقة لتسريب الوثائق الضخمة.» وعلاوة على ذلك، «ويكيليكس تحتفظ بملقمات خاصة بها في أماكن غير معلنة، ولا تحتفظ بسجلات وتستخدم التشفير العسكري لحماية المصادر وغيرها من المعلومات السرية».
الآن يتعرض الموقع للمضايقة الشديدة من مراقبة وإيقاف وقرصنة، وحتى الطرد من مواقعه الافتراضية في الإنترنت، أو موقعه الحقيقي في أرض الواقع.. والآن يطارد مؤسس الموقع جوليان أسانج، وربما يكون قد اعتقل بعد كتابة هذه السطور، أو أن الموقع دمر، أو أي شيء من هذا القبيل، فأوار الحرب لا تزال في بدايتها..
يقول أسانج: «ما أفعله مجدٍ.. أنت تعيش حياتك مرة واحدة. إذن، لم لا تفعل شيئا مجدياً؟» هذا مبرر مهم لمن يبحث عن مبرر، ومشابه لذلك ما قاله ماننج، إضافة لمسألة الدفاع عن حقوق الإنسان ومعاداتهما للحرب مع نشر معلومات الجرائم والفساد التي تقوم بها حكومات الدول التي تصنع الحروب، لذلك يرى أسانج أن السلطات الأمريكية تخشى من يحاسبها، معقبا بالقول: «دمرنا المصداقية الأميركية في أفغانستان».
وأياً كانت المبررات مع أو ضد نظرية المؤامرة، فالأصل هو في الأدلة وليس المبررات أو الدوافع. فهل يملك أصحاب نظرية المؤامرة دليلاً واحداً؟ الواقع أنهم هم يجيبون بلا!
ولكن هل يعني ذلك أن ويكيليكس مجرد مؤسسة مجتمع مدني حقوقية رائعة وبلا أخطاء أو ثغرات معرفية وثقافية هائلة؟ كلا! لكن هذا سيكون موضوع المقالة القادمة.