في الأسبوع الماضي قادتني قدماي إلى سوق بيع الأسماك بمدينة القطيف، وهذا السوق عادة ما يبدأ الساعة السادسة مساءً حين يتجمع صيادو الأسماك ويحضرون حصيلة اليوم من صيد الأسماك ويباع يومياً، يعني في وقته (طازج). وبعدما أشتريت حافظة كاملة تتسع لحوالي عشرة كيلوجرمات من السمك، أشار إليَّ البائع أن هناك مجموعة من الشباب يقومون بتنظيف السمك وتقشيره للحافظة كلها بخمسة ريالات، فذهبت نحو هؤلاء الشباب الذين يتجاوز عددهم الخمسة، يلبسون بناطلين وقمصاناً رثة، ويحملون بأيديهم أدوات للتنظيف وتقشير الأسماك من الأصداف والأملاح، فتناول أحدهم مني الحافظة وبدأ بالعمل، فدار بيني وبينه هذا الحوار القصير.. هل هذه مهنتك الأساسية أم هناك عمل آخر تقوم به نهاراً؟ فنظر إليَّ وهو يبتسم ابتسامة ملؤها الحسرة والألم، قائلاً: للأسف لا يوجد لدينا نحن الخمسة إلا هذه المهنة. وضرب لي مثل قائلاً (أيش حدك على المر إلا أمر منه!). فسألته: وهل أكملت تعليمك؟ فقال: نحن الخمسة يوجد لدينا مؤهلات جامعية وحاصلون على شهادة (البكالوريوس) في تخصصات مختلفة (لا يوجد لها اسم في أجهزة مكاتب الخدمة المدنية). فسألته: وما هي هذه التخصصات؟ فأجاب: اللغة العربية والجغرافيا والتاريخ والرياضيات، هذه تخصصاتنا، فالمدارس الحكومية متشبعة من هذه المؤهلات، والمدارس الخاصة تشتري تعبنا بملاليم، هذا إذا كانت هناك فرصة لتجد الوظيفة، لذا قررنا أن نمتهن مهنة الأجداد والآباء على الأقل نعود إلى منازلنا ومعنا مصروفنا اليومي بدلاً من أن نكون عالة على أهلنا، ولكن الفارق بيننا وبين الآباء والأجداد أنهم لم يتعلموا ولم يدخلوا مدارس وجامعات لذا فهم مضطرون، أما نحن فلدينا شهادات جامعية ولكن لا يأس مع الحياة، والحمد لله على كل حال.
هذه كلمات شاب في العشرينات من عمره، يعمل بين أنياب الفك المفترس وهو يحمل شهادة جامعية. حينها تذكرت بأنني قرأت منذ أسابيع مقالاً لأحد كتابنا الكبار الذي يشار إليه أنه من أحد كبار الإعلاميين والكتاب في المملكة، حينما تحدث في مقاله عن الشباب السعودي بأنه مترف ومدلع، تمنيت حينها لو أن أستاذنا الكبير يرى بنفسه هؤلاء الشباب «المدلعين والمترفين» الذين يعملون طيلة عشر ساعات أحياناً والساعة بخمسة ريالات، ولكن هناك عتب أو مصب آخر ينبغي أن يتداركه كل من وزارتي الخدمة المدنية والتعليم العالي. فإذا كانت الخدمة المدنية وهي الجهة المسئولة عن تعيين هؤلاء الشباب والشابات لا يوجد لديها وظائف شاغرة لهذه التخصصات، إذن لماذا تدرس هذه التخصصات وتخرج كل سنة أفواجاً منهم؟ وما دام ليس لهم حاجة بهم، فلماذا لا تستبدل هذه التخصصات بتخصصات أخرى يكون الوطن في حاجة لها؟ فنحن نشهد كل عام أعداداً هائلة من خريجي الثانوية العامة من بنين وبنات لا تقبلهم جامعاتنا السعودية وأستقبلتهم الجامعات الأخرى في دول الجوار وبعض الدول العربية، لأن جامعاتنا ووزارة الخدمة المدنية كانتا سبباً في ذهاب هؤلاء الشباب إلى خارج وطنهم، فهل يأتي اليوم الذي نجد فيه كل طالب يجد مقعداً في الجامعة، وهل سيأتي اليوم الذي نجد فيه أن شبابنا سيجدون وظائف لهم بعد التخرج؟
اللهم آمين يا رب العالمين.