بعد وداع أستاذي الفاضل د. محمد عبده يماني -رحمه الله- أحببت أن تكون كتابتي عنه ذاكرةً معبرةً غير عابرة لتبقى ألقاً في نسيج الذاكرة لإنسان سخّر فكره ووقته وقلمه وبيانه لخدمة دينه وأمته ووطنه، وبذل جهده بإخلاص في الوفاء والعطاء بسخاء وشفافية عرفت بها شخصيته الأثيرة.
وقد بدأت معرفتي بهذا الرجل الفذ عندما كان وزيراً للإعلام، حيث كنت آنذاك متعاوناً في إعداد البرامج في إذاعة الرياض، وأعد برنامج (قصيدة مختارة) وأشترك في إعداد وتقديم برنامج (حديث المساء) وقمت بزيارة أستاذي معالي الدكتور محمد عبده يماني في مكتبه في مبنى الإذاعة عام 1398هـ فوجدت عنده شيخي الفاضل الأستاذ الشاعر عبدلاله بن محمد بن خميس والأستاذ المذيع أمين قطان، وجلسنا في حضرته ما يقارب نصف ساعة، ثم استأذن ليجتمع والشيخ عبدالله بن خميس في قاعة الاجتماعات، فقمت وقدمت له باكورة إنتاجي الشعري (أمل جريح) فشكرني وودعته وشيخي ابن خميس الذي وثق تعريفي فيما بعد -أثابهما الله- ومنذ ذلك التاريخ استمرت الصلة والاهتمام بهذه الشخصية الأثيرة من خلال ما يطرحه من أفكار وما يصدره من كتب وروايات، وما ينسجه من مقالات، كان منها المقالة التي نشرها في هذه الجريدة (الجزيرة) يوم الاثنين 11-1-1431هـ الموافق 28 ديسمبر عام 2009م بعنوان (ملك بقلب أب ووجدان إنسان) كان مضمونها عن زيارته لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في منتجعه الربيعي في (روضة خريم).
ولمعرفتي وثقتي بما يكنه الملك عبدالله للدكتور محمد عبده يماني من محبة وتقدير لشخصه العزيز فقد أثرت الاحتفاظ بهذه المقالة الوثائقية التي تحمل أطيافاً من الذكريات الحميمة الوجدانية التي يعبر عنها الدكتور محمد بأسلوبه الرشيق وشفافيته الصادقة فيقول:
لقيت خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مكان يستريح فيه خارج المدينة، ليرتاح من ضجيجها ومن عناء العمل ويأنس بالمناخ النقي، وقد سررت بلقاء الرجل سروراً عظيماً وأحسست أنا والإخوة الذين ذهبنا للقائه أننا نلقى رجلاً فيه صدق وأمانة ووضوح، ويدرك أبعاد المسؤولية التي يحملها بعد أن أكرمه الله باختياره ملكاً للبلاد، وقد كان -حفظه الله- يعتز ويفرح بهذا، ووجدناه ملكاً بقلب أب، ورجلاً يتعامل مع الأحداث بوعي وأمانة، وقد وفقه الله إلى اتخاذ قرارات أساسية ومهمة فرحنا بها جميعاً داخل البلاد وخارجها، وكان حازماً عندما أحس برغبة بعض من حولنا الاعتداء على حدودنا فجاء رده صارماً حازماً لا هوادة ولا مساومة فيه، ولكنه في الوقت نفسه أصرّ على أن لا نعتدي على شبر واحد من أرض جيراننا، ولا نتدخل في شؤونهم، ونحن ندعو الله أن يطفئ الفتن التي اشتعلت عندهم، وعلينا أن نعينهم بالدعاء وبإيضاح أهمية جمع الكلمة ووحدة الصف وأن الحوار كما أعلن الملك عبدالله بكل صراحة هو الطريق، والتنمية هي الغاية، أما الصدام والحروب فلا يقودان إلا إلى مزيد من الكوارث والمآسي.
وقد كان زيارته هذه رحلة اصطحب معه فيها نخبة من الرفقة الطيبة، لكنه يتطرق فيها إلى ذكريات أثيرة منسوجة بأنسجة المحبة والوفاء للملك الصالح الملك خالد بن عبدالعزيز الذي تولى الدكتور محمد عبده يماني في عهده حقيقة وزارة الإعلام ويتطرق كذلك إلى موقف من مواقف الوفاء والارتقاء للملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمهم الله جميعاً- فيعبر عن تلك المواقف، مبرزاً وموثقاً حدثاً مهماً وأثيراً لكل ملوك آل سعود في شرف خدمة الحرمين الشريفين منذ الملك المؤسس عبدالعزيز -غفر الله له- إلى الملك عبدالله بن عبدالعزيز- وكلهم كان يشرف بمسمى (خادم الحرمين الشريفين).
ويقول الدكتور في مقاله التوثيقي:
وقد صحبت صفوة من الأحبة في هذه الرحلة إلى روضة جميلة خارج مدينة الرياض تعرف «بروضة خريم» وذكرتني بالأيام الخوالي يوم كنا نخرج مع الملك خالد -رحمه الله- إلى «الثمامة» و «روضة التنهات».
ولقد أسعدني أن أكون مع الابن الأمير فيصل بن خالد بن عبدالعزيز لنقدم مع هيئة جائزة الملك خالد -رحمه الله- لخادم الحرمين الشريفين الجائزة الخاصة بفرع الإنجاز الوطني لهذا العام، وذلك تقديراً له ولاهتمامه وسلسلة نجاحاته في تنمية قطاع التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية، وكان معنا في الوفد الزملاء الدكتور سعود بن سعد المدحمي، والدكتور عبدالله بن عبدالرحمن العثمان، والدكتور صالح بن عبدالرحمن العذل، والأستاذ فيصل بن عبدالرحمن العمر، والأستاذ عبدالله بن سالم باحمدان، والدكتورة الجازي بنت محمد الشبيكي.
وعند تقديم الجائزة كان رد الملك عبدالله رائعاً وفيه معنى الوفاء، فقد قال: «جائزة الملك خالد» جائزة عزيزة علينا وجائزة نعزها ونحترمها، الله يغفر له ويحلله ويبيحه، نفع البلاد ولم يأت منه ولله الحمد إلا كل خير على الشعب السعودي كله وعلى الأمة الإسلامية.. وشكراً لكم.
وقد سرني في اللقاء أن رجلاً تقدم إليه يثني على جهوده وقال له: (إنك يا خادم الحرمين قد حميت حدودنا وبلادنا)، فقال الملك عبدالله: «يا أخي إن الحامي هو الله، والحارس هو الله، وما نحن إلا جنود نستعين به عز وجل ونتوكل عليه» وقد ذكرني هذا بأيام بعيدة في عهد الملك فيصل -رحمه الله- عندما قال أحد الشعراء له: «يا حامي الحرمين دمت موفقاً» فقال الملك فيصل -رحمه الله- لمعالي السيد أحمد عبدالوهاب رئيس المراسم الملكية في ذلك الوقت: «قل له يصحح العبارة.. أنا لست حامي الحرمين، أنا خادم الحرمين) وأعتقد أن ذلك القائل هو الشاعر المبدع الأستاذ عمر أبو ريشة عند إلقائه إحدى قصائده بين يدي خادم الحرمين الشريفين الملك فيصل في أحد مواسم الحج في عهد الملك فيصل -رحمه الله-.
وينتظم في نسيج توثيق الأحداث ما كتبه الدكتور محمد عبده يماني عن زملائه في العمل والمعاناة، كان آخرها ما نسجه عن رفيق عمره الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- حيث تناول شخصيته في عدد من المقالات منذ بداية مرضه قبل عام وفي أثناء علاجه وبعد وفاته، ولعل أكثرها شاهداً عن علاقته بالملوك في عمله ما تضمنته مقالته المنشورة في عدد الجزيرة ذي الرقم (13871) يوم الاثنين 11-10-1431هـ بعنوان (اذكروا محاسن غازي القصيبي) حيث تطرق إلى علاقاته بزملائه وعمله، وأدائه للأعمال الإنسانية وعلاقته بأولياء الأمر فقال عن ذلك: (أذكر شخصياً والزملاء في الوزارة كيف أنه كان يتعفف عن الوشاية بالناس عند أولياء الأمر، ورأيته يمارس ذلك مع الملوك الذين توالى على العمل معهم- رحمهم الله- فكان لا ينقل إليهم إلا الكلمة الطيبة، ومن واجبنا أن نذكر لغازي أنه لا يحقد رغم كل الذين حقدوا عليه، وعاملهم بإنسانية ومروءة، وكانت من محاسن غازي قدرته على التحرك، ورغبته في الإصلاح، وموهبته في التنظيم والإدارة، وأنا من الذين شهدوا هذه المراحل عند زمالتنا له في جامعة الملك سعود ثم في الوزارة) هذا التوثيق منبثق عن مصدر ثقة عدل منصف يعد أحد شهود هذا العصر، وكان آخر مقال توثيقي نسجته يده الأمينة عن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي نشر في جريدة الجزيرة بعد وفاة الدكتور محمد بأيام وفاءً له وعرفاناً بالجميل. أكتفي بالإشارة إليه بصفته نموذجاً من نماذج التوثيق التي زخرت بها أعمال فقيد الفكر والثقافة والإعلام الأستاذ الدكتور محمد عبده يماني -غفر الله له ورضي عنه وأرضاه-.
اقتراح:
وإشارة إلى ما سبق أن طرحته لتوثيق الأعمال التاريخية وتجاوب معالي الدكتور فهد السماري أمين عام دارة الملك عبدالعزيز على أحد مقالاتي في هذه الصفحة الأثيرة عن التوثيق، ولأهمية توثيق ما كتبه أستاذنا الدكتور محمد عبده يماني عن سيرة الملوك الذين عاصرهم التي توزعت في كتاباته أقترح أن يتم جمعها ونشرها إما من قبل (دارة الملك عبدالعزيز) التي تعنى بتوثيق مثل هذه الأعمال وتبادر إلى التجاوب النبيل -كعادتها في التوثيق- أو من أي جهة أخرى ذات علاقة وثيقة مثل وزارة الثقافة والإعلام أو أحد الأندية الأدبية(1).
***
(1) الاثنين 11 محرم 1431هـ -28 كانون الأول (ديسمبر)2009م العدد 13605
(2) الاثنين 11-10-1431هـ العدد (13871).