ولأنها المنبت والقبلة..، فقد كانت تصفق لها الجوانح كلما حان وقت طي الكتب المدرسية، ولملمة وريقات الدرس، وحصد ما تطيب به النفس من الملبس وإضافاته في حقيبة السفر، وإشاعة روح الفرح، فمكة قبلة السفر، ووجوه الأهل فيها ملاذ البهجة، وبيت الله الحرام موطئ الخطوة حين لقاء، كعبتها كحل العين، وزمزمها برد الظما، والصلاة هناك في ساحات مسجدها الحرام أمنية القلب.. مكة كانت تفتح مساحاتها وترينا أوجه جبالها وتبتسم لنا بمحيا أهلها الطيبين، كل عام نذود عن حبنا في مراتع الصرخة الأولى، ونلم شعث فراقنا بين جدران دورها، ونطلق عنان شوقنا بعناق كل بقعة فيها.. نعرفها بهية بمِنحِها لكل نازل أواب إليها، كما هي لكل قاصد مستجد في ربوعها، البيوت تفتح له بعد الصدور، والرواء يقطر في فمه واللقمة تمتد إليه دون مقابل، الناس تفتح بيوتها في المواسم لكل ذي لون ولسان وهيئة، وكان هذا يزيدنا حباً لها، وسعادة بانتمائنا لترابها وسمائها ومائها واسمها.
مكتي غدت تتسع وتضيق، تزدحم ولا تكاد معالمها تبين، تغيرت فيها أشياء كثيرة، وكثير من أهلها هجروها، ومن بقي منهم نزح بعيداً عن منطقة الحرم، معاضدة للمشروع الأكبر من أجل ضيوف الرحمن، لكن، دخلت رغائب الدنيا في سلوك كثير من المتعاملين مع ضيف الرحمن، حيث ارتفعت فيها أسعار الإقامة للعمرة والحج، وتنافس ملاك العقار في الخدمات الفندقية تماماً كما تنافسوا في أسعار حملات الحج،.. وكان المتوقع أن تقابل جهود الدولة في التوسعة الضخمة التي هدفها إتاحة الفرص لكل المسلمين لأن يجدوا السبيل ميسراً للحج والعمرة، بتيسر مماثل من قبل أصحاب المؤسسات وملاك العقار، بجعل الإقامة زهيدة الثمن تتناسب وجميع المستويات والأحوال لزوار بيت الله الحرام رغبة في أجري الدنيا والآخرة، بمثل ما كان عليه أهل السقاية والرفادة، حين كانت البيوت تفتح أبوابها، وتفرغ حجراتها استضافة، أو في مقابل زهيد يعين على الحياة لمن هو بحاجة، والموائد تبسط بلا مقابل، والقلوب تشرع بفرح لضيوف الله على يسر ودون إرهاق.. مكتي الآن تضج عبئاً بجشع اعتور القلوب ودنيا تراوغ النفوس.. وزحمة شديدة تدعو كل من زار واعتمر وصلى واقترب أن تتحرك فيه نخوة المسلم الذي لا يتم إيمانه ما لم يحب لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه، فيترك له المكان، ويوسع له المدخل والمجلس، ولا يضيق عليه في لحظات تعبده وخشوعه، فهو إن استطاع الحج والعمرة لمرة فلن يستطيع لمرات في ضوء الغلو في الأسعار، والتكالب على المواطئ، والتكاثف في المداخل والمخارج وفي الطرقات.. الأمر الذي أثق أنه أجهد الأجهزة الرسمية من المرور والمتابعة والفرق الميدانية والأمنية.. كما أنه أفسد على ضيوف الرحمن التمتع الهانئ بهدوء وسكينة التعبد كما ينبغي.. فافسحوا لغيركم المكان يفسح الله لكم.. وخففوا عنهم التكاليف يخفف الله عنكم.
مكتي بي شوق غامر لها في أيام كرمضان.. شوق، تلوح معه في النفس والذاكرة تلك الملامح الوهاجة حين كانت قبلة التوجه، كلما طرقت ساعة الحصة الأخيرة في المدرسة، وركضنا لنجد حقائبنا قد اصطفت، وأحذيتنا قد فغرت لندس فيها أقدامنا ونتجه لترابها.. لهوائها.. لعبق ساحات مسجدها الحرام.