لا تنحصر إخفاقات التنمية العربية فقط في سوء الإدارة والتخطيط والفساد المالي، ولكن أيضاً في انحطاط الأخلاق والكفاءة والجدية والإنتاجية في المجتمع العربي. فمعدلات الأداء والإنتاج عند العامل العربي لا تزال متدنية عند مقارنتها بالآسيوي. وقد أكون متحاملاً عندما أصل إلى قناعة أن الكذب والتمويه والهروب من المسؤولية ظاهرة عربية بامتياز. لكن تطبيع الكذب كمهارة شعبية قد يعني أن ما انحزت إليه فيه الشيء الكثير من الحقيقة..
قد لا يمكن بأي حال الوصول إلى جوهر الأسباب خلف تلك الظاهرة..! أكان ضعف الوازع الديني أو غيره، والسبب أن أغلب الأجيال العربية الحالية تلقت تعليماً دينياً مكثفاً، إلى درجة أن العربي المسلم أصبح يجيد أداء التفاصيل بقلق زائد..! مثل سُنَّة تقديم الرجل اليمنى على اليسرى في دخول المسجد، ووجوب ترتيب الوضوء، وحف الشوارب، وفي شرب الماء جالساً، وإخراج البول قاعداً، أو في رفع إزار ثوبه فوق الكعبين وغيرها..
لكن عندما يأتي الأمر إلى العمل فإنه يتقاعس، بل تجده يكذب كثيراً من أجل تبرير تقصيره في عمله أو غيابه المتكرر. كذلك تجد للكذب موقعاً في عقلية الإداري والسياسي في العالم العربي، فنتائج الانتخابات العربية في بعض الدول قد تكون المهرجان الدوري للاحتفال بيوم الكذب العربي، ويوم إعلان تأكيد شرعيته كجزء مشروع من منظومة الأخلاق العربية في العصر الحديث.
يحرم الدين بإطلاق الكذب (وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً). لكن في العصور اللاحقة فتح بعض الفقهاء باباً واسعاً للكذب، فقد أفتى بعضهم في جواز التقية، والتقية من الفعل العربي يتقي أي يخشى كما يقول المثل العربي (اتق شر من أحسنت إليه)...
التقية كمصطلح ديني هي إخفاء معتقد من الضرر المادي أو المعنوي. وأهل السنة والجماعة والإثنا عشرية متفقون على مسألة التقية، لكن الخلاف في معناها واستخدامها، لكنها تطورت لاحقاً لتدخل تطبيقاتها في باب جلب المصالح، لتكون مثل الستار الذي يغطي حقيقة المسلم وموقفه ورأيه. وقد دأب بعض علماء المسلمين المحدثين على أنهم يتقون أو يكذبون على السلطان أو السياسي العربي من أجل تحقيق أغراضهم الدنيوية والدينية، وفي ذلك تشريع للكذب. وإذا توارى عالم الدين خلف ستار الكذب، فلن نلقي لوماً على العامة إذا كان الكذب صفة سائدة بينهم.
تأخذ ظاهرة الكذب في المجتمع العربي بعداً سلطوياً، فتجد الأبناء يكذبون على الآباء، والطلبة على الأساتذة، والرأي العام على السلطة. وقد أدى استفحال هذه الظاهرة إلى خروج ثقافة عربية شعبية تجد في الكذب مهارة و»شطارة» اجتماعية، وقد اكتسبت مصداقيتها في نجاحها في تحقيق المصالح بسبب إجادة فن الكذب، وأيضاً في احتوائها اجتماعياً كنوع من الدعابة، وليس الموقف الصارم تجاهها من خلال باب الحزم...
أجد أن مواجهة ظاهرة الكذب في المجتمع العربي في غاية التعقيد والصعوبة، فقد تم تشريعها وقبولها اجتماعياً من مختلف الاتجاهات، بل أصبحت جزءاً من شخصية العربي سواء كانت ليبرالياً أو متزمتاً، وسيحتاج الأمر إلى تجديد ثقافي في كثير من المسائل، ولعل أحدها إعادة النظر في فقه التقية وأبواب جلب المصلحة ودرء المفسدة، والتي كانت بمثابة التبريرات التي سمحت للناس أن يقبلوا بطبيعة الكذب من أجل حماية مصالحهم ومنافعهم الذاتيه، ويدخل في ذلك العامل والموظف والإداري والمسؤول والقاضي، ولا شك أن غياب ثقافة الانتخابات والشفافية وسلطة القانون وحرية التعبير التي تنقض أهلية الكذابين أمام الرأي العام العربي أحد تلك الأسباب وأهمها على الإطلاق.