في التجربة التربوية للمعلمين الروّاد السابقين، رؤى جديرة بالتوثيق والاحتضان تقديراً لحضورهم، ووفاءً لتجربتهم الواعية الحاضرة في زمن كان يفتقر إلى كثير من الإمكانات والطاقات والنوافذ المفتوحة نحو إشراقات الوعي والتعليم والابتكار التي تتوفر الآن باحتمالات وأساليب ومسارب شتى لم تكن تخطر على بال سوى ذوي الألباب والفراسة النادرين.
والأستاذ التربوي الرائد سليمان بن عبدالعزيز المهيزع من جيل الروّاد الذين عاصروا تفتُّح بذرات التعليم الأولى في مرحلة التأسيس بالمملكة، وقد كانت له التجربة الواقعية في الطلب منذ البداية في «الكتاتيب» لدى نخبة من المشايخ التقليديين، حيث تلقّى دروس الهجاء بصورته التقليدية المكثّفة المتصلة لدى المعلم محمد بن حرقان، والمعلم إبراهيم بن حرقان، والمعلم إبراهيم بن خميس، وختم القرآن الكريم لدى الشيخ عبدالرحمن بن حمد بن داود - رحمهم الله -، ودرس النحو «قواعد اللغة العربية» والأصول على فضيلة الشيخ الرائد عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ - رحمهم الله -، وكان والدي الشيخ سالم بن حميد - قد درس لدى فضيلته في نفس الفترة التي درس فيها أستاذي الشيخ سليمان المهيزع، ومن هنا نشأت المعرفة والصلة الوثيقة بين هذين الوالدين المربِّيين - رحمهما الله -، وهي الفترة التي سبقت مرحلة تلقِّي المؤرّخ الأستاذ عبدالرحمن الرويشد والأديب الأستاذ عبدالله بن إدريس بعامين أو ثلاثة، وواصل والدي دراسته ومتابعته القراءة على الشيخ عبدالعزيز بن محمد السالم والشيخ سعد بن فالح بالمربع، بينما اتجه الشيخ سليمان إلى دراسة الخط والحساب
والإملاء في المسجد الحرام لدى فضيلة الشيخ إبراهيم الحلواني - رحمه الله - وقد أهّلته تلك الدروس، بالإضافة إلى الدراسة في حلقات مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -، نحو صياغة شخصية معلم واعٍ يضطلع بأداء مهنة التعليم في إحدى المدارس التعليمية النظامية بالرياض، وهي (المدرسة السعودية) بحي المربع التي كنت - وشقيقي محمد - من تلاميذه فيها، ثم انتقلنا إلى (معهد الملك سعود للتربية والصناعة) بعد دمجهما، إلاّ أنّ طموح أستاذنا لم يقتصر على التعليم في الكتاتيب وحلقات التعليم الأولى وإنما تجاوزها إلى الدراسة في معهد المعلمين بالمرحلة المتوسطة مسائياً، ثم المعهد العلمي السعودي الثانوي بالرياض، مما أسهم في تطوير شخصيته الإدارية والتعليمية، وتثقيف رؤاه التي تجاوزت مع التجربة كثيراً من معاصريه.
ولن أنسى حرصه وإلحاحه على إفهام تلاميذه برغم ما يكتنف التعليم في الثمانينات الهجرية من التقليدية الفجّة المسكونة بالغلظة، وما يغمرها من أساليب التلقين والحفظ والحزم في المتابعة والدقة المبالغ فيها في المراقبة والحذر المسكونين بالقسوة والشدة بحجة الانضباط والوصول إلى أقصى درجات الإتقان، وقد أفرزت تلك الوسائل أشتاتاً من التفاوت المعرفي والازدواجية التي ظلّت تلاحق كثيراً من الطلبة حتى تفرّقت بهم السبل في مدارس شتى افتتحت في السنوات التالية لعام 1377ه وقذفت بآخرين إلى سبل الحياة الأخرى.
يُعَد كتاب (مسيرة التعليم في المملكة العربية السعودية والبلاد العربية) الذي ألّفه الأستاذ سليمان بن عبدالعزيز المهيزع خلاصة تجربة طويلة في التعليم، وكما وصفه على غلاف الكتاب (مشاهدات ونظرات معلم) عاصر مراحل التعليم النظامي في المملكة، منذ بدايته في عهد المؤسِّس الملك عبدالعزيز - رحمه الله -، وقد توّج فاتحة هذا الكتاب بكلمة مختارة للملك عبدالعزيز عن التعليم، ضمن كلمته التي ألقاها بمناسبة مرور خمس سنوات على تأسيس (مشروع الخرج الزراعي عام 1358هـ)، وتُعَد بمثابة الكلمة التوثيقية لعنوان واعٍ عن أسس البنية التأسيسية لتطوُّر الأمم وانطلاقها في مجالات شتى يتقدّمها التعليم، يقول فيها الملك عبدالعزيز: (إذا لم يصبح العرب قادرين على تكوين طبقة اجتماعية متطورة علمياً وفنياً ومهنياً في الوقت المناسب فسيكون الوارثون لهم في وضع يضطرون فيه ويرغمون على تجديد الامتيازات الخاصة بالشركات الأجنبية، وتكون هذه الأخيرة هدفاً لإغراءات شديدة تدفعها إلى الإقامة المستمرة).
وقد تناول المؤلف المراحل التي مر بها التعليم قبل التعليم النظامي، والإرهاصات التي سبقت تأسيس (مديرية المعارف)، وهو التعليم التقليدي الموروث الذي يتشكّل في ما يسمّى» الكتاتيب» وحلقات الدروس وغيرها من المدارس الأهلية، والأعمال الاجتهادية الخاصة التي لا تتجاوز أبجديات تعليم القراءة والكتابة بطرق بدائية رتيبة، وجاء بعده ما كان يسمّى (التعليم غير النظامي) ويشمل التعليم في الحرمين الشريفين، ومدرسة المعلم، وحلقات العلم، والتعليم في الهجر، وقد تناولها الأستاذ سليمان المهيزع بشيء من التفصيل.
أهمية كتاب «المهيزع» في توثيق مسيرة التعليم:
تأتي أهمية كتاب الأستاذ سليمان المهيزع من حيث عنايته بتوثيق بدايات التعليم بالمملكة العربية السعودية، وتطرُّقه لموضوعات شتى ذات علاقة وثيقة بنشأة التعليم وتطويره وانطلاقه عبر جداول شتى من أهمها:
* تطوُّر إعداد المعلم، حيث أنشئت عدد من صروح التعليم التأسيسية بالمملكة في عهد المؤسِّس الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وهي:
1 - المعهد الإسلامي (المعهد العلمي السعودي بمكة) عام 1345هـ وهو أول معهد للتعليم فوق الابتدائي، ومدة الدراسة فيه ثلاث سنوات، ثم تطور التعليم فيه إلى مرحلتين: الكفاءة، والثانوية.
2 - معهد المعلمين في مكة المكرمة عام 1347هـ.
3 - مدرسة ينبع لتعليم أبناء العشائر، وأنشىء عام 1345هـ.
4 - مدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة، عام 1355هـ للمرحلتين المتوسطة والثانوية.
5 - تسع مدارس ابتدائية في حواضر متفرقة عام 1356هـ.
6 - المدارس التي أنشأها الشيخ عبدالله القرعاوي بجنوب المملكة، وأولها (مدرسة صامطة) عام 1358هـ.
7 - مدرسة (دار الأيتام) عام 1362هـ.
8 - دار التوحيد بالطائف عام 1363هـ للمرحلتين المتوسطة والثانوية ولها فروع في المدينة المنورة، وجدة، والأحساء، وأبها.
9 - المدرسة النموذجية في الطائف عام 1366هـ، ثم انتقلت إلى جدة عام 1380هـ وتغيّر اسمها إلى (مدارس الثغر النموذجية).
10 - مدرسة إعداد المعلمين في مكة المكرمة، وعنيزة في عام 1368هـ.
11 - كلية الشريعة بمكة المكرمة عام 1369هـ.
12 - المعاهد العلمية عام 1370هـ.
13 - كلية الشريعة بالرياض عام 1373هـ التي كانت مع كلية اللغة العربية، بالإضافة إلى المعاهد العلمية الشرعية نواة للجامعة التي أنشئت في
ما بعد في عهد الملك فيصل - رحمه الله - بمسمّى (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية).
وتناول المؤلف إيراد أسماء مجموعة من المعاهد العلمية التي أنشئت في عهد الملك سعود - رحمه الله - لتأهيل المعلمين، ثم أنشئت أول جامعة بالعاصمة (الرياض) هي: جامعة الملك سعود عام 1377هـ ثم توالت المدارس والمعاهد والمراكز العلمية والكليات، والبرامج التعليمة المتنوعة.
وتطرّق الأستاذ سليمان المهيزع إلى (التعليم الموازي) الذي توزّع في مدارس تحفيظ القرآن الكريم المنتشرة في المساجد، وتطرّق إلى تأسيس «الجمعية الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض» ولكنه لم يبيِّن دور نخبة من العلماء المعلمين للقرآن الكريم ممن عاصرهم وعرفهم المهيزع شخصياً قبل مرحلة (التعليم النظامي)، أذكر منهم على سبيل الوفاء والاعتراف بالفضل - المشايخ الفضلاء، عبدالله الخياط «إمام الحرم المكي» والشيخ عبدالله الخليفي» إمام الحرم المكي «والشيخ محمد السناري، والشيخ صالح بن مصيبح والشيخ عبدالعزيز بن محمد بن سالم في المربع، والشيخ محمد بن سنان الذي كان له دور رائد في تعليم القرآن قبل وبعد تأسيس جمعية تحفيظ القرآن الكريم بالرياض، وتلقّى التعليم لديه نخبة من العلماء والمشايخ الذين تولّوا مهمة تعليم القرآن في حلقات المساجد، بعد التعليم النظامي، وفي مدارس تحفيظ القرآن بعد أن صارت نظامية عام 1378هـ ولعلِّي أذكر منهم على سبيل المثال الشيخ سعد بن فالح الدوسري الذي كان مشرفاً على حلقة تحفيظ القرآن بجامع الملك عبدالعزيز بالمربع حين كان إماماً له، وحين كان يعلم فيه الشيخ (سالم بن حميد) على مدى ثلاث أو أربع سنوات.
التعاون التعليمي الدولي بالمملكة:
التفاتة رائعة وجدتها لأستاذي الشيخ سليمان المهيزع تتمثّل في توثيق التعليم الدولي بالمملكة بصفتها عضواً مؤسساً ومشتركاً في نخب من المنظمات الحكومية المعنية بالتعليم مثل:
مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي.
المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم.
منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم.
وكلٌ من هذه المنظمات تقوم بدور فعّال مؤثر في التنمية والتوعية والتدريب والتربية من خلال عمل البحوث والدراسات وإعداد الندوات وتنظيم الدورات والفعاليات العلمية والثقافية عبر نشاطاتها المتعددة التي يُعَد من أهمها:
1- المنح التعليمية السعودية للطلاب والباحثين.
2- برنامج إيفاد المعلمين السعوديين.
3 - المدارس والأكاديميات السعودية.
4 - الكراسي العلمية السعودية.
وقد كان توثيق المؤلف المهيزع واعياً ومناسباً لإنشاء (الكراسي العلمية) الذي أوضح أنه: تعزيز للتفاهم الدولي في مجال التعريف بالإسلام، ودوره في حركة التاريخ الدولي، وموقعه الحضاري العالمي في تطور المعرفة والاكتشافات العلمية، وأثره الإيجابي في معالجة القضايا الإنسانية والتنموية، وأهميته الأخلاقية في الدعوة إلى قيم المحبة والسلام، واحترام حقوق الآخرين وحرياتهم. الكتاب ص 115.
ومتى أنشئ أول كرسي علمي سعودي خارج المملكة؟ .. تأتي الإجابة على هذا التساؤل الذي يراود كل من يرغب تناول نشأة «الكراسي العلمية» توثيقية عند الأستاذ سليمان المهيزع الذي يشغل باله هذا الأمر لأهميته، فيقول في كتابه عنه (أنشئ أول كرسي علمي سعودي خارج المملكة باسم «كرسي الملك عبدالعزيز للدراسات الإسلامية» في جامعة كاليفورنيا الأمريكية عام 1404 هـ - 1984م، وفي عام 1413هـ أنشئ «كرسي خادم الحرمين الشريفين للشريعة والتاريخ والقضايا الإسلامية» في جامعة هارفرد - الأمريكية).
ولأهمية توثيق الكراسي العلمية، فقد أورد الأستاذ سليمان المهيزع تاريخ إنشاء مجموعة من الكراسي العلمية خارج المملكة منها:-
1- كرسي الملك فهد بن عبدالعزيز للدراسات الإسلامية في جامعة لندن عام 1415هـ - 1995م.
2 - كرسي الأمير نايف بن عبدالعزيز في جامعة موسكو عام 1416هـ -1996م - منوهاً بأنه تحوّل في ما بعد إلى (قسم أكاديمي).
3 - كرسي اليونسكو للتربية الصحية عام 1422هـ -2001م برعاية الأمير سلطان بن عبدالعزيز، ويعني بتوفير الخبرات الصحية في مجال اهتماماته للدول العربية.
وقد رصد المؤلف الأستاذ سليمان المهيزع مجموعة من المفكرات بالأوليات الخاصة بالتعليم النظامي وما يتعلق به مما يضيق المجال عن سرد تفصيلاتها، وقد ذكّرتني هذه الأوليات باهتمامات الزميل د. عبدالرحمن الدوسري المختص برصد الأوليات وغيرها.
وفي آخر الكتاب تطرّق بالنقد إلى «التعليم التلفزيوني» برغم أن التعليم التلفزيوني بالمملكة لا زال متأخراً، وحبذا لو استفادت القنوات الإعلامية من تجربة مصر في التعليم التلفزيوني بتوفير قنوات اختصاصية رائدة في عدد من المواد المهمة، لتكون بمثابة الروافد المساندة للدورات والمحاضرات والندوات الاختصاصية المهمة لتطوير الذات والارتقاء بنماذج التنمية والإبداع، وقد أيّد أستاذنا المهيزع ما نبّه إليه الدكتور عبدالرحمن العيسوي في بحثه القيِّم بعنوان (الآثار النفسية والاجتماعية للتلفزيون العربي)، نحو تقصير التلفزيون عن القيام بأداء دوره في مجال التعليم المفتوح المسمّى (التعليم عن بُعد)، وهو التعليم المعاصر الذي انطلقت جهود عدد من الجامعات في التوجُّه إليه واحتضانه مستفيدة من التقنيات الحديثة المتاحة.
وبعد:
فإنّ هذه التجربة الثرية الرائدة للأستاذ المعلم سليمان بن عبدالعزيز المهيزع جديرة بالتقدير، ويمكن الإفادة منها من كل من يهمهم أمر تطوير التربية والتعليم.
وقد أفضل عليّ صديق العمر الأستاذ عبدالله بن محمد المهيزع بإهدائي نسخة من هذا الكتاب الذي يضم تجربة وجهداً استغرق عمراً مديداً و(551 صفحة) كنت أنتظره من أستاذي المؤلف منذ ما يقارب خمس عشرة سنة.
وقبل قيامي بإعداد حلقة من البرنامج الأثيري لإذاعة الرياض بعنوان (رجال في الذاكرة) عام 1418هـ المخصصة عن فضيلة الشيخ القاضي محمد بن عبدالعزيز المهيزع، طلبت من أستاذي الشيخ سليمان المهيزع أن يتحدث عن شيخنا الفاضل محمد المهيزع بصفته أحد أقاربه المقربين، ومن روّاد ندوته الفقهية العلمية في بيته - رحمهما الله - فاعتذر مفضلاً أن يتحدث من هو أعلم وأعرف بشخصيته.
وقد كان له اهتمام برصد الآراء والمقترحات عن شؤون أخرى تهم المواطن - غير التربية والتعليم - يؤثر المبادرة إلى تقديمها للمسئولين لمعالجتها - أثابه الله وأحسن مثواه جزاء ما قدّم، وأرجو الله أن يمحني وكل محبيه القدرة على الوفاء له، والله ولي التوفيق.