مقاربة عوالم (المتنبي) يتنازعها حبٌّ مسرف، أو كره مسرف، وما حظي بوسطية تنشد الحق لوجهه إلا فيما ندر، وذلك قدر العظماء، ومؤشر العبقرية، فالمتنبي جاء نشزاً في سياقه،
|
ولقد ساعدت إمكانياته وأخلاقياته وأحواله كلها على اضطراب المفاهيم والمواقف حوله، إذ كان مُدِلاً بموهبته، مُباهياً بشخصيته بازاً لأقرانه، مستأثراً ببلاطات ممدوحيه، حتى لقد استنجد بهم للخلاص من حسّاده:
|
أزل حسد الحسَّاد عني بكبْتهم
|
فأنت الذي صيَّرتهم لي حُسَّدا
|
ولقد وسَّع هوَّة الاختلاف ما يعتري نسبه وعقيدته من غموض، وما يكتنف اجتراحاته اللغوبة من إشكاليات، وما يزخر به شعره من ثقافات وتجاوزات للمألوف، وما ظفر به شعره، من سيرورة وقبول.
|
ولقد تمر فترات يراجع فيها الحفيون به والبرمون منه أنفسهم فيهدأ النقد، ويستقيم على الطريقة، والحفيون كالمناوئين يَصُدُّون عن الحق صدودا، وفي غمرة التنازع حول شوارده تتقاطر جاهزيات الأحكام ومجازفاتها، وفي غمرة الولاء والبراء يكون لكل جواد كبوة ولكل عالم زلة، وليس بدعاً أن يهم العالم أو يشطح المفكر، مثلما عرض للأستاذ القدير أبي عبدالرحمن إبراهيم البليهي مع ما له من أبواع طويلة في معارف شتى، وهو يعيش صَدْمةَ الحزن على فقيد الكل الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، والبدع من الأمر لا يكون إذا كان العالم والمفكر أحدهما أو كلاهما صادقاً مع نفسه معبراً عن وجهة نظره، شريطة أن يكون متوفراً على معلومته ذات المناط، مقتدراً في اجتهاده، متصوراً لمحكومه، عادلاً في حكمه، ومتى استطاع التغلب على هواه مع امتلاك الشجاعة في تحمل تبعات التغريد خارج السرب، وقدر المشهد أنه إذا قيل للمخطئ أخطأت تنازعه موقفان:
|
|
- أو الوقوع في إثم الاعتزاز بالرأي.
|
ولو ظن العلماء والمفكرون بأنفسهم خيراً لما استفحل التنازع، على أن إعجاب كل ذي رأي برأيه واحتساب أحكامه من المقدس والمعصوم يوسع هوة الخلاف، ويفسد للود كل قضية.
|
وما أثير حول المتنبي في مجال المفاضلة إنما استزل المفاضل أخذ المتنبي خارج سياقه وأنساقه، فالمتنبي سلك سبيل من سلف من الشعراء محتفظاً بعمودَّية الشعر ومحققاته، ولكنّه فاق الأوائل والأواخر بالموهبة الفذة والثقافة الشاملة والتجربة العميقة والأجواء الملائمة، وبزهم بسيرورة شعره وجمجمته عما في نفوس الناس، وما استطاع أحد من خصومه الأقوياء أن يحولوا بين شعره والمتلقفين له ومنشديه في كل مناسبة، وإن استطاعوا أن يحولوا بينه وبين مثله الأعلى (سيف الدولة) مما اضطره إلى البحث عن مَثَلٍ أدنى (كافور) نكاية واضطرراً:
|
إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا |
ألا تفارقهم فالراحلون همُ |
يا أعدل الناس إلا في محاكمتي |
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم |
وفي قمة الضجر والتحدي وصف نفسه بما يليق بها:
|
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت |
وإذا نطقت فإنني الجوزاء |
وأعذب شعره أكذبه، وهو كذب فني يتمثل في جنون العظمة والمبالغة والإحالة، ولقد جّدَّ المريدون من النقاد في توجيه ذلك كله وإذا عيب عليه المدح المسرف والفخر الممجوج فإن ذلك سمة العصر وعنوان، وليست سمة الشاعر، ولقد جاء والشعر لسان السلطان وسلاح الفارس ودعوى الزعيم وصوت القبيلة، ووسيلة إعلام العصر، والحكم عليه خارج سياقه ظلم له، والإغماض عما شاع من حكمه وروائعه إجحاف في حقه، وحضوره عبر أحد عشر قرناً إثراءٌ للأدب والنقد العربيين، وبهذا الحضور الفاعل لا يمكن التفكر له ولا المفاضلة بينه وبين كائن من كان، وقانون السياق شرط في أي مقاربة، وتناسيه تجنٍّ متعمد وغمط واضح لحقه.
|
ولو قيل شعر (عمر أبو ريشة) أو (محمود درويش) أو غيرهما في زمن (المتنبي) لحثي في وجههم التراب، ولو بعث (المتنبي) من مرقده على ما هو عليه ووفق نسقه وسياقه الماضوي لما احتفت به المحافل، إذ لكل زمان دولة ورجال.
|
ومثلما نخطئ بحق المتنبي عندما نحاسبه من خلال النسق والسياق المعاصرين، فإننا نقع بذات الخطأ حين نناشد عودة (صلاح الدين الأيوبي) لإقالة عثرة الأمة ورفع المهانة عنها، إذ لو عاد صلاح الدين، على ما كان عليه وبإمكانياته وأساليبه ومفاهيمه وخطابه لكان مكانه الطبيعي أحد المتاحف وليس إحدى سدات الحكم. وإذا كان المتنبي ينام قرير العين عن شوارده فإن الخوف عليه من فضول القول فضول مثله، ومنذ أن غدر به أشأم القوم والناس حوله في سهر واختصام، فمن صاعد به فوق هام السحب ومن هاوٍ به إلى مكان سحيق، وكتاب (رائد المتنبي) فهرسة لمئات الكتب وآلاف الدراسات التي تناولت المتنبي في القديم والحديث، وما من متذوق لإبداعاته أو متابع لأخباره إلا وتساوره الرغبة الملحة في مقاربة شعره بدراسة تكشف عن براعته وحسن أدائه.. وليس غريباً أن يطلُعَ عليه مفكرٌ حاد الطبع حَدِّي الموقف طلوع المنون، ليقول إنه دون من يَعُدُّون أنفسهم من أصغر تلاميذه، ولا أستبعد كونه مشمولاً بالموقف من الحضارة الإسلامية عند صاحبنا الأعز....
|
|
|