حينما أعلن الدكتور غازي القصيبي يرحمه الله عن ميلاد قصيدته: (سيدتي السبعون)، علمت ساعة قراءتها بأنه كان يرثي نفسه ضمناً، وقد قرأتها عدة مرات، وكان لي نقاش مع بعض الإخوة في ذلك الوقت حول هذه القصيدة التي أثارت حفيظة الشعراء، الذين جاروها إبان نشرها، فقرأتها عدة مرات وكل مرة أتيقن بأنها رثاء الدكتور غازي لنفسه!! وقد تذكرت الشاعر العربي مالك بن الريب المازني، عندما كان في طريقه لإحدى الغزوات، وأثناء القيلولة لسعته أفعى وجرى السم في جسمه فأحس بالموت فرثى نفسه بقصيدة يعرفها القاصي والداني، ومن جملة ما قال وهو يصارع الموت:
|
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة |
بوادي الغضى أزجي القلاص النواجيا |
فليت الغضى لم يقطع الركب عرضه |
وليت الغضى ماشى الركاب لياليا |
تقول ابنتي لما رأت طول رحلتي |
سفارك هذا تاركي لا أباليا |
|
تذكرت من يبكي علي فلم أجد |
سوى السيف والرمح الرديني باكيا |
وأشقر محبوكاً يجر عنانه |
إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا |
ولكن بأطراف (السمينة) نسوة |
عزيز عليهن العشية ما بيا |
صريع على أيدي الرجال بقفزة |
يسوون لحدي حيث حم قضائيا |
ولما تراءت عند مرو منيتي |
وخل بها جسمي، وحانت وفاتيا |
أقول لأصحابي ارفعوني فإنه |
يقر بعيني أن (سهيل) بدا ليا |
فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا |
برابية إني مقيم لياليا |
أقيما علي اليوم أو بعض ليلة |
ولا تعجلاني قد نبين شانيا |
وقوما إذا ما استل روحي فهيئا |
لي السدر والأكفان عند فنائيا |
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي |
وردا على عيني فضل ردائيا |
ولا تحسداني بارك الله فيكما |
من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا |
خذاني فجراني بثوبي إليكما |
فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا |
|
يقولون: لا تبعد وهم يدفنونني |
وأين مكان البعد إلا مكانيا |
غداة غد يا لهف نفسي على غد |
إذا أدلجوا عني وأصبحت ثاويا |
فيا ليت شعري هل بكت أم مالك |
كما كنت لو عالوا نعيك باكيا |
إذا مت فاعتادي القبور وسلمي |
على الرمس أسقيت السحاب الغواديا |
|
فيا صاحبا إما عرضت فبلغا |
بني مازن والريب أن لا تلاقيا |
أقلب طرفي حول رحلي فلا أرى |
به من عيون المؤنسات مراعيا |
|
وبالرمل منا نسوة لو شهدنني |
بكين وفدين الطبيب المداويا |
فمنهن أمي وابنتاي وخالتي |
وباكية أخرى تهيج البواكيا |
وقد كان ذلك في عصر قديم أحس به ذلك الرجل بدنو منيته، فرثى نفسه يرحمه الله!!
|
أما الدكتور غازي القصيبي فقد رثى نفسه في هذا الزمان الذي كثرت فيه المغريات، وكان التطور مذهلاً في كل مجال، وكان الأجدر بكثير من كبار السن أن يتشبثوا بهذه الدنيا، لا كما كان في عصر مالك بن الريب!! فقد بلغ السبعين عاماً ولم يتوقع أنه سيبلغها:
|
ماذا تريد من السبعين.. يا رجل؟! |
لا أنت أنت.. ولا أيامك الأول |
وقد شبهها بوحش جاء مكشراً عن أنيابه في منظر قبيح، بل إنها وجه أظهره وأشهره الموت في وجهي:
|
جاءتك حاسرة الأنياب |
كالحة كأنما هي وجه سله الأجل |
ويعتذر للسيدة (السبعون) أننا حينما التقينا لم أكن في شدة الفرح:
|
أواه! سيدتي السبعون! معذرة |
إذا التقينا ولم يعصف بي الجذل |
ويعتقد القصيبي بأن حساباته كانت غير متوقعة وأن السبيل للوصول للسنة السبعين منقطع، ولم يكن يتصور بأنه سيكمل السنة السبعين:
|
قد كنت أحسب أن الدرب منقطع |
وأنني قبل لقيانا سأرتحل |
ويكرر الاعتذار للسنة السبعين، متسائلاً ماذا سيحتفلان به معاً؟
|
أواه! سيدتي السبعون! معذرة
|
بأي شيء من الأشياء نحتفل؟!
|
|
أبالشباب الذي شابت حدائقه |
أم بالأماني التي باليأس تشتعل؟ |
أم الحياة التي ولت نضارتها؟ |
أم بالعزيمة أصمت قلبها العلل؟ |
أم بالرفاق الأحباء الألى ذهبوا |
وخلفوني لعيش أنسه ملل؟ |
ويختم قصيدته اللامية بأنه حينما وصل لهذا العمر، فإنه مستسلم لقضاء الله وقدره، وممتثل له:
|
تبارك الله! قد شاءت إرادته |
لي البقاء.. فهذا العبد ممتثل! |
فالمولى جل وعلا يعلم خفايا الأشياء، فقد أودعت نفسي وسلمته في يده سبحانه، وهو الأمل الوحيد، والملجأ، والأمل في الله لا يخيب:
|
والله يعلم ما يلقى.. في يده أودعت نفسي.. وفيه وحده الأمل غفر الله لهما وأسكنهما فسيح جناته.
|
د. ناصر بن عبد الله الخرعان |
|