عادت ظاهرة التطرُّف والعنف إلى الواجهة، فما يحدث في اليمن من عنف وتطرُّف وإرهاب ديني مسلح ينذر بإمكانية حدوث تغيير غير متوقع على خارطة السياسة العربية، وقد نستطيع القول إنَّ العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مهيأة لارتفاع معدلات التطرف الديني في الجزيرة العربية من جديد..
تقع اليمن تحت طائلة الفقر، ويزيد الفساد الإداري من تأثيراته القاسية على السكان، ولم يعد مجدياً الاكتفاء بإرجاع بيئة التطرف إلى أسباب أيديولوجيه فقط؛ فالدين المسيس بروح الانقلاب والثورة عادة ما يجد أنصاره في أولئك المتأثرين بثنائية الفقر والفساد، ويميلون إلى إظهار الغضب والعنف تجاه الوضع العام؛ وبالتالي يجدون في الخطاب السياسي الديني الثوري ملجأً لهم بدلاً من الموت جوعاً على قارعة الطريق، أو النزوح إلى الدولة المجاورة الكبرى.
يُعدُّ الخطاب المسيس بالخطاب الديني العنيف جزْءاً لا يتجزأ من منظومة التيارات الإسلامية في التاريخ الإسلامي، وعادة ما يظل نائماً لعصور إلى أن تتهيأ له الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ لينطلق بين الصفوف يحيي روح الثورة الدينية، ويدعو إلى حَمْل السلاح بعد تكفير الأنظمة السياسية القائمة، كما حدث في مختلف عصور تاريخ المسلمين، وما يحدث في العصر الحديث إلا امتداد لنسق إسلامي قديم، كانت بداياته في عصر الفتنة، وفي عصور الكلام والجدل، التي شهدت أطول مناظرة ومواجهة في تاريخ المسلمين بين أقطاب المعارضة المسلحة والسلمية وبين السلطة، ولم يستطع فقهاء المسلمين خلال إرثهم الفقهي الطويل الوصول إلى اجتهاد شرعي يطفئ شرارة الخروج المسلح للأبد؛ فقد استمرت ظاهرة الخروج المسلح علامة فارقة في مراحل صعود الدولة الإسلامية ثم انهيارها، وصعود أخرى مدججة بالسلاح والتكفير والغضب..
كان العامل المشترك في تلك الأزمنة هو رغبة القفز إلى كرسي السلطة ثم الانفراد بها، ولم يعرف العرب طوال تاريخهم أي تنظيم إداري سياسي مدني يقلل من دورة الثورات والانقلابات الدينية والعسكرية، في حين وصل بقية العالم إلى مبتغاهم عندما أرسوا مناهج التطبيقات الحديثة للشفافية والديمقراطية وحكم المؤسسات..
لن تجدي الحروب الكلامية والخطب الرنانة أو المقالات النارية ضد الحركيين الإسلاميين؛ فالمسألة لم يعد يحكمها المنطق أو الفلسفة العقلانية، ولكنها تحكمها الظروف غير المتكافئة، فالطرف الآخر المؤدلج بروح السلاح الديني يستغل تلك الظروف، ويطوعها من أجل مصلحته السياسية، والدين الإسلامي حمّال أوجه في كثير من قراءاته، وقد دأبت التيارات على البحث عن النصوص التي تعزز من مواقفهم وطموحاتهم السياسية، وقد يكون للنصائح تأثير إيجابي لكنها لن تتجاوز إصلاح أو تغيير نسبة غير مؤثرة من المتطرفين في ظل استمرار البيئة الملائمة للتطرف..
علّمنا التاريخ أن التوجهات الفكرية والسياسية بين زعماء التطرف وبين الأتباع المجندين تختلف في كثير من الأحيان، فالزعماء لديهم أجندة سرية مختلفة تماماً عما يبحث عنه الأتباع أو حطب المعركة بين الزعماء والسلطات القائمة، الذين يعتقدون واهمين أن التغيير الدموي سيُحسّن من ظروفهم الاجتماعية، وسيعيد العدالة الاجتماعية إلى مسارها الطبيعي، لكن من يقتل مرة سيقتل مرات أخرى، ولن يصل المجندون أو الأتباع إلى هدفهم غير المعلن في إمكانية تحسين ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية، فالتجارب الحديثة التي كان آخرها الثورة الدينية في إيران اختلفت أهدافها بعد الوصول إلى كرسي السلطة، وتمت تصفية المخالفين، فالسلطة المطلقة مفسدة مطلقة مهما تشدقت شعاراتها بالمثالية والأقوال المأثورة..
عودة التطرف الديني والعنف المسلح في اليمن ظاهرة خطيرة على الوطن؛ فمعدلات النزوح اليمني النظامي وغير النظامي ازدادت كثيراً في السنوات الأخيرة بسبب ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وربما يكون الهدف عند غالبيتهم الهروب من الفقر والبطالة وربما من المواجهة المنتظرة بين الحكومة اليمنية وخلايا القاعدة، لكن آخرين قد يسعون إلى تحقيق مآرب أخرى.. اللهم احفظ بلادنا من الفقر والفساد والفتن.