الحياة الإنسانية المعاصرة تقوم على منظومة من التشريعات، يفترض أن تكون: شاملة، متكاملة، عادلة، معززة لإنسانية الإنسان وكرامته،
محافظة بصرامة وحزم على الأمن وطنياً ودولياً. وفي حال انخرام أيّ من الصفات السابقة، فإن تلك التشريعات تفشل في تحقيق البعد القيمي والتنظيمي وقد تتحول إلى عالة على المشاريع الإصلاحية وتحول دون تحقيق ما سبق من الغايات الكبرى وراء تبني التشريعات في حياتنا المعاصرة.
ولقد فوجعنا جميعاً بخبر إقدام رجل دين أمريكي (متطرف) بعملية قذرة تتمثل في حرق المصحف الشريف في ذكرى هجمات 11 سبتمبر 2001، وهو الكتاب المقدس لخمس سكان الأرض، وقد أبدى بعض الساسة والمفكرين والإعلاميين ورجال الدين امتعاضهم من هذا الصنيع البشع، إلا أن رجل الدين الأمريكي المتطرف (تيري جونز) -وهو أسقف في كنيسة بولاية فلوريدا تعرف باسم «مركز الحمائم للتواصل العالمي»- لم يبد في بداية الأمر أيّ نية للتراجع هو وكنيسته عن حرق نسخ من المصحف الشريف، وراح يتبجح بالقول بأن (الإسلام من عمل الشيطان)، متهماً القرآن الكريم بأنه هو المحرض على هجمات 11 سبتمبر، وذكر بأنه يأخذ في اعتباره ما أطلقه بعض القادة العسكريين من التحذيرات المتكررة بأن ذلك العمل قد يتسبب في تعريض الجنود الأميركيين في مناطق العالم المختلفة للخطر، وعلى الرغم من ذلك كله يؤكد على ضرورة الاستمرار في هذا العمل القبيح، وكأنه يقول بأنني أدرك ما يمكن أن يترتب عليه عملنا، ولكننا ماضون في طريقنا!.
وبعد ذلك نقلت لنا الأخبار تراجع القس الأميركي عن الإقدام على حرق المصاحف الشريفة، والبعض يعتقد بأنها النتيجة النهائية السعيدة التي حققناها، ويتوهمون بأن الخطر قد زال والمقدسات قد تم صونها وبأن الضغوط قد آتت أكلها في نهاية المطاف وما إلى ذلك.. والمسألة التي أود التأكيد عليها هو أننا يجب أن نحلل بعمق يتجاوز مجرد التراجع والنكوص عن ذلك العمل الحقير المدنس للمقدسات الإسلامية، وكأنه بات منة يمن بها على المسلمين أو حتى على العالم أجمع، فالأنفاس كانت محبوسة إلى حين إعلانه التراجع، وهو تراجع ليس نهائياً وقد يعود هو أو غيره إلى التهديد بفعل ذات الأمر أو ما يشبهه في أيّ وقت لتحقيق بعض المكاسب عن طريق الابتزاز بالتهديد بتنفيذ أعمال بشعة كحرق المصحف الشريف. أيسوغ هذا اللون من التفكير؟ قطعاً لا.
ونعود لمسألة الاعتراض الذي أبداه البعض والشجب لذلك العمل الحقير، لنتساءل بكل هدوء وعقلانية: هل يكفي ذلك الاعتراض والشجب؟.. بالتأكيد لا يكفي، فهو على الأحسن مجرد (نوايا طيبة) و(عقلانية مقيدة) عن الفعل والتصرف في سياق نوايا سيئة وعقلانية مفقودة، وهذا يدفعني إلى القول بأن ذلك يعني (موت التشريعات دماغياً)، حيث إنها تفشل في منع جريمة نكراء كهذه بحجة (الحرية الفكرية). مما يجعلني أطالب فقهاء القانون والخبراء التشريعيين بإعادة التفكير في هذا المسلك الخطير الذي يغتال التشريعات ويصيبها في مقتل. نعم يجب التحرك على المستوى السياسي والقانوني لوقف هذه الأعمال وتجريمها قانونياً، والعالم يجب أن يقاد بالعقلانيين وليس بالمتطرفين البلهاء.
أليس من المؤسف أن نترك للعابثين تدمير بنية التعايش والتسامح فيما بين الشعوب والديانات والثقافات والحضارات التي نعمل على تأسيسها وترسيخها وفق مبادئ ومقومات وشرائط الاحترام المتبادل؟.. هذه التشريعات التي تعجز عن حماية تلك المكتسبات هي تشريعات فاقدة للعقلانية ومجافية للقيم ومخالفة لجوهر النظام العالمي، ولهذا يجب تعديلها لكي تستعيد رشدها وعقلانيتها.
وإلى أن نصل إلى هذه النقطة أعتقد جازماً بأنه يتوجب الوقوف بالقوة أمام أولئك المتطرفين ومنعهم استناداً إلى الأطر التشريعية الكبرى وضرورة الانحياز إلى جوهر القانون الدولي المتمثل في تحقيق العدالة والكرامة والأمن. وأقولها بكل وضوح إننا ندرك أن الحكومات الغربية ومنها الحكومة الأمريكية قد تعاملت في سياقات متعددة بما يخالف نص القانون لتحقيق أهداف عليا تتوخاها، وقد واجهت بسبب ذلك نقداً داخلياً لاذعاً ومقاومة قوية من قبل العديد من الفعاليات، إلا أنها مضت قدماً لتحقيق تلك الأهداف. ولست محتاجاً لسوق الأدلة على ذلك، لأنني لا أريد الدخول في تفاصيل تلك التطبيقات العملية، لئلا أخرج عن صلب الموضوع.
فهل نشهد حركة ملموسة لاستعادة عقلانية التشريعات وحمايتها من المتطرفين الذين يتوفرون على سكاكين حادة، ويرومون إماتتها دماغياً، لتبقى -في بعض جوانبها- جسداً بلا روح؟.. أرجو ذلك قبل أن تتاح هوامش لأولئك المتطرفين. وفي حال الفشل في التدخل وتصحيح ذلك الوضع، فإننا أمام حالة من (الردة التشريعية) وذاك أمر خطير وله نتائج وخيمة على الاستقرار والأمن والتعايش.
(*) beraidi2@yahoo.com