ثالثاً: الأثر الأمني الشامل
يعيش الإنسان على هذه الأرض ويتقلب في مناكبها، ويسعى بين جنباتها، وقد يعرض له ما يخيفه ويحذر منه، ونتيجة لذلك أصبح الأمن مطلباً ضرورياً للإنسان في حياته. والمتأمل في كتاب الله تعالى يجد أن القرآن الكريم قد كفل للإنسان أمنه وطمأنينته في حياته الدنيا، وفي حياته الأخرى.
والأمن الذي نادى به القرآن الكريم شامل وكامل في حياة الإنسان (ولا يتوفر الأمن بمجرد ضمانه لحياة الإنسان فحسب، بل هو يحتاج إلى الأمن على عقيدته التي يؤمن بها، وعلى هويته الفكرية والثقافية، وعلى موارد حياته الاقتصادية والمادية).
يقول تعالى ممتناً على قريش بما هيأه لها من الأمن دون سائر القبائل، وليكون ذلك داعياً لها إلى عبادة الله تعالى وتوحيده: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش: 3-4).
وقال تعالى مبيناً أن الأمن الحقيقي يكون لمن آمن به ووحده ولم يخلط إيمانه بشرك، وأن غير ذلك من الأمن تبع له، ويتضح ذلك في معرض قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه: (وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إلا أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ. وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمن وَهُم مُّهْتَدُونَ) (الأنعام: 80-82).
ما في هذه الحياة الدنيا فإن الإنسان يتقلّب بين أمن وخوف، ولكن في الحقيقة لا أمن ولا طمأنينة له إلا بالاعتصام بكتاب الله الكريم، والإيمان به وعبادته سبحانه دون شريك له كما قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).
وقال تعالى منبهاً على خصوصية لبيته الحرام وهي خاصية الأمن دون سواه من البيوت: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً) (البقرة: 125).
كما بيّن تعالى أنّ من دخل بيته الكريم فهو آمن، كما قال تعالى: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبراهيم وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران: 97).
ويبين القرآن العظيم أن الأمن الحقيقي والدائم هو ما يكون يوم القيامة من دخول المؤمنين الجنة كما في قوله تعالى: (ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ) (الحجر: 46).
القرآن يكون سبباً في سعادته الدنيوية، وأن الحياة الحقيقية التي يجب أن يسعى لها الإنسان هي حياة الآخرة قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أو أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل: 97)، وقال تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: 77)، وقال تعالى: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلا قَلِيلٌ) (التوبة: 38).
رابعاً: التمكين في الأرض
فالتمسك بالقرآن من آثاره يمكنه الله في الأرض، وييسر له أسباب الاستقرار وعدم الاضطراب. قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور: 55).
واعتبر ذلك بحال رعيل هذه الأمة الأول الذين كانوا أكثر الناس تمسكاً بالقرآن الكريم وأعظمهم اتباعاً له، كيف فتح الله تعالى عليهم البلاد وقهر لهم العباد، وأعانهم حتى تهاوت لهم عروش الجبابرة من أهل الكفر والعناد فأصبحوا بالتمسك بالقرآن الكريم سادة بعد أن كانوا مسودين، وأصبحوا قادة بعد أن كانوا مستعبدين.
وصدق الله العظيم الذي قال وقوله الحق: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (عمران: 26).
القدرة بعون الله تعالى على إقامة صرح الدولة الشامخ المبني على تقوى من الله تعالى ورضوان فلا يتزعزع بناؤها، ولا يتهلهل أساسها ما دام أهلها متمسكين بالقرآن الكريم وذلك لأن القرآن الكريم وضع للمسلمين أسس إقامة الدولة من حيث المحافظة على دينها الذي هو عصمة أمرها، ودنياها التي فيها معاشها، وآخرتها التي إليها معادها.
وقد تقدم طرف مما تقيم به الدولة دعامة دينها، وبه يستقيم أمرها وتسعد في معادها أما ما يختص بشؤون دنياها فقد رسم القرآن الكريم طرق السياسة الصحيحة التي يُساس بها الناس فيستقيم أمرهم.
كما أوضح أسس المعايير الاجتماعية التي تقيم العلاقات بين الأفراد والجماعات، كما بين حقائق بناء اقتصاد الدولة على أسس سليمة لا ينهار معها ولا يضطرب، كما يُبين القرآن الكريم أسباب القوة ليؤخذ بها حتى يبقى صرح الدولة فارعاً شامخاً وبيّن أسباب الضعف لتُجتنب، حتى لا يعصف بالدولة عواصف الهدم ولا يعمل فيها معاول التخريب.
خامساً: تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية
فهو يحقق السعادة الدائمة الخالدة، وهي مرتبة على صلاح المرء في حياته الدنيا قال الله تعالى: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (النحل: 28)، وقال تعالى: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ) (النحل: 30).
* المدير العام لفرع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بمنطقة المدينة المنورة