من خصائص دين الإسلام، عدم التفرقة بين أبنائه: لا جنساً ولا لوناً ولا قبيلة، ولا غنى ولا فقراً، بل الجميع فيه سواسية في الحقوق والواجبات،
وأكرمهم عند الله أتقاهم، وقد انصهر فيه العرب والعجم، فلا فضل لعربي على اعجمي إلا بالتقوى.
والتفاصيل فيه بكثرة الأعمال المقربة إلى الله، وصدق القلب وحس العمل، وقد انصهر فيه وقت رسول الله، كنموذج لمنهج الإسلام في المحبة والتقارب، سلمان الفارسي، وصهيب الرومي وبلال الحبشي، مع أجناس العرب، ومنازلهم في قومهم، ومع الهاشميين وأهل بيت النبوة.
وصهيب بن سنان، صحابي جليل، ومن السابقين إلى الإسلام، كان أبوه من أشراف الجاهلية، ولاه كسرى على الأبلة (البصرة) وكانت منازل قومه في أرض الموصل، على شط الفرات، مما يلي الجزيرة والموصل، وبها ولد صهيب، فأغار الروم على ناحيتهم، فسبوا صهيباً وهو صغير، فنشأ بينهم، فكان ألكن اللسان، لأنه نشأ مع الأعاجم، واشتراه منهم أحد بني كلب، وقدم به إلى مكة، فاشتراه عبدالله بن مجدعان التيمي، ثم أعتقه فأقام بمكة يحترف التجارة، إلى أن ظهر الإسلام، فأسلم فكان من السابقين، حيث لم يسبقه إلا بضعة وثلاثين رجلاً.
ولما قرر المسلمون الهجرة إلى المدينة، بعدما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان صهيب قد ربح أموالاً كثيرة، من بيعه وشرائه بمكة، فمنعه المشركون من الهجرة لأنه ليس له عشيرة، وقالوا له: جئتنا صعلوكاً مملوكاً حقيراً، فلما كثر مالك هممت بالرحيل عنا؟ لن نرضى بأن تفارقنا، فكان يحاولهم، وقال: أرأيتم إن جعلت لكم مالي كله، تخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال: دونكم إياه، وجعل لهم ماله كله، وخلوا سبيله، وهاجر إلى المدينة فقيراً، بدل أن كان غنياً، ولكنه آثر بماله دينه لأن دينه ألزم عليه من المال فهو يضحي بهذا المال وإن كان غالياً على النفس في سبيل البقاء على ما هو أغلى منه إنه الدين.
فلما بلغ ذلك رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: ربح صهيب، ربح صهيب. وبعد الهجرة شهد مع رسول الله بدراً وأحداً والمشاهد كلها، كما قال ابن الأثير في أسد الغابة، وكان من رواة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد له في الصحيحين 307 أحاديث، وكانت وفاته بالمدينة سنة 38هـ وكان يعرف بصهيب الرومي، وله فضائل، وقد جاء في الحديث، يقول صلى الله عليه وسلم: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة»، وقد كناه رسول الله بأبي يحيى، وقد كان إسلامه هو وعمار بن ياسر في يوم واحد، وكان صهيب من المستضعفين بمكة الذين عذبهم كفار مكة: قريش.
وكان شجاعاً ومن الرماة المشهورين، روي أنه لما هاجر إلى المدينة، تبعه نفر من المشركين، فنثل كنانته -أي أخرج ما فيها من السهام- وقال لهم: يا معشر قريش، تعلمون أني من أرماكم، ووالله لا تصلون إلي، حتى أرميكم بكل سهم معي ثم أضربكم بسيفي، ما بقي في يدي منه شيء، فإن كنتم تريدون مالي دللتكم عليه؟ قالوا: فدلنا على مالك نخلي عنك، فتعاهدوا على ذلك، فدلهم عليه ولحق برسول الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع أبا يحيى) فأنزل الله عز وجل: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (207) سورة البقرة (رواية ابن الأثير في أسد الغابة).
كما حدث ابن الأثير بسنده إلى أنس بن مالك: أن رسول الله قال: (السبّاق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة) حديث صحيح أورده ابن الأثير.
وكان يعجب بالمداعبة والمزاح، ورسول الله يحب أن يداعبه، ومع ما عرف عنه رضي الله عنه، من فضل وعلو درجة في الإسلام فإنه حسن الخلق، لطيف في رده، فقد روي عنه أنه قال: جئت رسول الله وهو نازل في قباء، ومعه أصحابه وبين أيديهم رطب وتمر، وأنا أرمد -أي في عينه رمد- فأكلت من الرطب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا صهيب أتأكل التمر وأنت أرمد؟) فقلت: يا رسول الله: إنما آكل على شق عيني الصحيحة، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بدت نواجذه. ومن مواقفه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما روي أن صهيباً كان في لسانه عجمة شديدة، فقد روي زيد بن أسلم، عن أبيه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب، حتى دخل على صهيب، حائطاً له بالعالية فلما رآه صهيب قال: ينّاس ينّاس، فقال عمر: ما له لا أباله يدعو بالناس؟ فقلت: إنما يدعو غلاماً له اسمه يحنّس وإنما قال ذلك لعقدة في لسانه فقال عمر رضي الله عنه:
ما فيك أعيبه يا صهيب من شيء إلا ثلاث خصال لولاهن، ما قدّمت عليك أحداً: أراك تنتسب للعرب ولسانك أعجمي، وتكتني بأبي يحيى اسم نبي، وتبذّر مالك. فقال: أما تبذير مالي فلا أجعله إلا في حقه، وأما اكتنائي بأبي يحيى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي كناني بأبي يحيى، فلن أتركها، وأما انتمائي للعرب فإن الروم سبتني صغيراً، فأخذت لسانهم وأنا رجل من النمر بن قاسط ولو انفلقت عني روثة لانتميت إليها.
وكان عمر محباً لصهيب رضي الله عنهما، حسن الظن به حتى أنه لما ضُرب أوصى أن يصلي عليه صهيب، وأن يصلي جماعة المسلمين ثلاثاً حتى يتفق أهل الشورى على من يستخلف. وموقفٌ له مع عمر، ففي فتح الشام الذي شارك فيه صهيب، حدّث الشعبي عن سويد بن غفلة كما قال ابن عساكر: لما قدم الشام، قام إليه رجل من أهل الكتاب، فقال: يا أمير المؤمنين إن رجلاً من المسلمين صنع ما ترى بي -وهو مشجوج مضروب فغضب- فغضب عمر غضباً شديداً، ثم قال لصهيب: انطلق فانظر من صاحبه، فأتني به.
قال أسلم: فانطلق صهيب، فإذا هو بعوف بن مالك الأشجعي، فقال: إن أمير المؤمنين قد غضب عليك غضباً، فأت معاذ بن جبل فليكلمه، فإني أخاف أن يعجل إليك.
فلما قضى عمر الصلاة، قال: أين صهيب؟ أجئت بالرجل؟ قال: نعم قال وقد كان عوف بن مالك، أتى معاذاً وأخبره بقصته، فقام معاذ وقال: يا أمير المؤمنين رأيت هذا يسوق بامرأة مسلمة على حمار، فنخس بها لتصرع، فلم تصرع فدفعها فصرعت فغشيها، أو أكب عليها. قال عمر ائتني بالمرأة، فلتصدّق ما قلت، فأتاها عوف بن مالك، فقال له: أبوها أوزجها: ما أردت إلى صاحبتنا؟ قد فضحتنا. فقالت: والله لأذهبن معه: فقال أبوها أو زوجها نحن نذهب فنبلغ عنك.
فأتيا عمر فأخبراه بمثل ما قال عوف فأمر عمر باليهودي فصلب وقال: ما على هذا صالحناكم؟ ثم قال: أيها الناس اتقوا الله في ذمة محمد صلى الله عليه وسلم فمن فعل منهم هذا فلا ذمة له، قال: وذلك اليهودي، أول مصلوب رأيته في الإسلام.
يقول صهيب: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل أن يوحى إليه، وفي قصة إسلامه يقول عمار بن ياسر: لقيت صهيب بن سنان على باب الأرقم، ورسول الله فيها، فقلت له: ما تريد؟ فقال لي: ما تريد أنت؟ فقلت: أريد أن أدخل على محمد، فأسمع منه، قال: وأنا أريد أن أسمع كلامه، فدخلنا عليه فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا ثم خرجنا ونحن متخفون، فكان إسلام عمار وصهيب بعد بضعة وثلاثين رجلاً.
وفي فضل صهيب، وصحبه السابقين إلى الإسلام، روى أبو أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا سابق العرب إلى الجنة، وصهيب سابق الروم إلى الجنة، وبلال سابق الحبشة إلى الجنة، وسلمان سابق الفرس إلى الجنة).
وعما لاقاه صهيب، والسابقون إلى الإسلام يقول مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر وبلال وخباب، وصهيب وعمار وسمية أم عمار، فأما رسول الله فمنعه عمه، وأما أبوبكر فمنعه قومه، وأُخذ الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد، ثم صهروهم في الشمس حتى بلغ الجهد منهم كل مبلغ، فأعطوهم ما سألوا، فجاء إلى كل رجل منهم قومه، بأنطاع الأدم فيها الماء، وحملوا بجوانبه إلا بلالاً فلما جاء العشي جاء أبو جهل فجعل يشتم سمية، ويرفث ثم طعنها فقتلها، فهي أول شهيدة في الإسلام وأول من استشهد فيه أيضاً، إلا بلالاً فإنه هانت عليه نفسه في الله حتى ملوه فجعلوا في عنقه حبلاً، ثم أمروا صبيانهم أن يشتدوا به، بين أخشبي مكة، فجعل بلال يقول: أحد أحد.
فرضي الله عنهم، ما أصبرهم على الأذى في سبيل الأجر من الله، وعدم التزحزح عن هذا الدين، يقول مجاهد في هذه الآية: (مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ)قال أبو جهل ما لنا لا نرى خباباً وصهيباً وعماراً اتخذناهم سخرياً في الدنيا أم هم في النار فزاغت عنهم أبصارنا!
فرحم الله صهيباً فقد جعل رسول الله محبته من الإيمان بالله واليوم الآخر.
حسن الظن بالله:
قال علي نصر: كما أن الرجاء مادة الصبر والمعين عليه فكذلك علة الرجاء ومادته حسن الظن بالله، الذي لا يجوز أن يخيب فإنا قد نستقرئ الكرماء فنجدهم يرفعون من أحسن ظنه بهم، ويتخوفون من تخييب أمله فيهم، ويتحرجون من إخفاق رجاء من قصدهم، فكيف بأكرم الأكرمين، الذي لا يعوزه أن يمنح قلبه، ما يزيد على أمانيهم فيه وأعدل الشواهد بمحبة الله جل ذكره، لتمسك عبده برحابه، وانتظار الروح من ظله ومآبه، إن الإنسان لا يأتيه الفرج ولا تدركه النجاة إلا بعد إخفاق أمله في كل ما كان يتوجه نحوه بأمله ورغبته.
وعند انغلاق مطالبه وعجز حيلته وتناهي ضره ومحبته ليكون ذلك باعثاً له، على صرف رجائه أبداً إلى الله عز وجل، وزاجراً له على تجاوز ظنه الحسن بالله سبحانه.
(الفرج بعد الشدة للتنوفى: 163).