نشرت جريدة الرياض مقالاً للدكتور عيسى الغيث بعنوان (البعد الغائب في مفهوم الوطنية)، تحدث فيه عن (الوطنية) من منطلق إسلامي محض. المقال كان في غاية القوة والرصانة وتماسك السياق، وكذلك التأصيل المحكم الذي لا يُزايد عليه إلا جاهل أو صاحب غرض. وليس لديَّ أدنى شك أن مثل هذه المقالات سيشن عليها الحركيون حملاتهم كالعادة، وسيقال في الدكتور الغيث ما لم يقله الإمام مالك - رحمه الله - في الخمر. السبب أن الوطن و(الوطنية) - كمفهوم وكقيمة - هي من أهم العوائق التي تقف في طريق الحركيين لتحقيق أهدافهم السياسية؛ ومن يقرأ في أدبياتهم لا يحتاج إلى عناء ليكتشف أن هناك حملة إسلاموية حركية (شرسة) على (الوطنية)؛ حتى أصبح من الشائع في خطاباتهم ومرافعاتهم السياسية، وكذلك مؤلفاتهم، قرن الوطن بالوثن، والوطنية بالوثنية، في محاولة لتمرير أن قبول مثل هذه المفاهيم هي ضربٌ من ضروب العودة إلى الجاهلية الأولى؛ وفي المقابل يحاولون بجهد لا تخطئه العين استبدال مفهوم الوطن بمفهوم الأمة، والوطنية بالأممية.
وإلغاء مفهوم الوطن، واستبداله بمفهوم الأمة - كما يطرح الحركيون - سببه في تقديري أن جميع الحركات الإسلاموية دون استثناء حركات أممية؛ وبالتالي فإن مثل هذه الحركات لا يمكن أن تنتشر، وتتجذر، وتنمو ويشتد عودها، ومفهوم (الوطن) حاضر وبقوة في أذهان الشعوب. وقد تنبه إلى هذه العقبة الكأداء كبار منظريهم منذ البدايات؛ فها هو سيد قطب يُحاول (بدهاء) أن يشوه مفهوم المواطنة، ويجعل من مقتضيات العقيدة ومفهوم الوطنية ضدين متناقضين؛ يقول في كتابه (في ظلال القرآن) ما نصه: (ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة. جعلها آصرة العقيدة في الله.. فعقيدة المؤمن هي وطنه، وهي قومه، وهي أهله.. ومن ثم يتجمّع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج!).. ويقول الشيخ الحركي، والراديكالي حتى النخاع حامد العلي: (الوطنية ليست سوى دين جديد، يُذل له الناس، ويشرّع له سدنته قوانينه التي تلحق به عبيده شروط الحصول على الجنسية، فينصر العبيد بعضهم بعضا، ويتوالون على أساسه، يعادون من عاداهم حتى لو من سائر المسلمين فيه، ويحدثون بين المسلمين حدثا عظيما، وإفكا مبينا، يقوض التوحيد، وينسخ أحكام الشريعة، ويشرع عصبية جديدة، تضرب وحدة الأمة، وتضعفها أمام أعدائها، وتزيد من تجزئتها التي أدت إلى ذلها وهوانها، وليت شعري كيف يحل لمسلم أن يفرح بتمزق بلاد الإسلام إلى أوطان كل أهل وطن بما لديهم فرحون، بعدما كانوا أمة واحدة في راية واحدة، تجمعهم رابطة واحدة، إلا فهذا إلى النواح أدنى منه إلى الأفراح) انتهى.
أما الذي جنيناه من إلغاء مفهوم الوطن والوطنية، وتكريس مفهوم الأمة والأممية، فأولئك الأغرار السذج الذين يشدّون الرحال إلى كل بلاد الدنيا ليدافعوا عن (وطنهم الإسلامي الكبير)؛ فالذين قاتلوا في أفغانستان، وفي البوسنة؛ أو أولئك الصبية الذين يجاهدون (الآن) في العراق، هم موبوؤن بهذه المفاهيم الحركية حتى العظم؛ ففي موازينهم أنك حين تدافع عن أفغانستان، أو عن البوسنة، أو عن العراق، فكأنك تدافع عن الرياض أو جدة أو الدمام أو أبها أو الجوف أو جيزان، لا فرق؛ وحينما (تستشهد) فإلى أحضان الحور العين!