الأستاذ الفاضل الدكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي
تحية وتكريم:
أكتب إليكم لأبارك لكم إصداركم الكتاب التذكاري «الاستثناء: غازي القصيبي شهادات ودراسات» وقد أتيح لي أن أقف عليه أخيراً بعد قيام مكتبة جامعتنا باقتنائه..
.. مما هيأ لي أن أتتبع مقدراً ما ضمّ من مواد ثرية تتناول إسهامات الفقيد الراحل في مختلف الميادين وكان حقاً فارساً بارزاً في كل حقل أو دور كتب له أن يختار منذ بدء حياته: الشعر - الرواية - الإدارة - المقالة - الثقافة - الدبلوماسية.
إن من الطبيعي أن تركز المواد المذكورة على إسهاماته في اللغة العربية وأدواره المتعددة إدارياً في وطنه، باستثناء بعض الإشارات إلى ما خلفه من أثر في اللغة الإنكليزية أو خارج وطنه، وأشير هنا إلى ما جاء في كلمة ياسين رفاعية حول دور القصيبي الفعال سفيراً في لندن يقارع أعداء العروبة والإسلام وكلمة الشاعرة الأمريكية باترشيا آلان بيرن وقد ألمحت فيها إلى ما ترجم من قصائده إلى الإنكليزية.
غير أن منجزات القصيبي - كما لا يخفى على قرائه - تتجلى كذلك بدرجات متفاوتة من الإحاطة فيما نشره أو ما ترجم له وما كتب عنه في الإنكليزية وغيرها من اللغات وهي منجزات تتطلب التقصي وإعداد الدراسات أو الفهارس الخاصة بها.
إن مجرد الرجوع إلى بعض قواعد المعلومات والفهارس في اللغة الإنكليزية وحدها يكشف عن مداخل لا حصر لها تتناول القصيبي أو تشير إليه منذ عام 1965 إلى يومنا هذا مما يتطلب جهداً جماعياً لمراجعتها. وأذكر على سبيل المثال قاعدة المعلومات المعروفة باسم LEXIS NEXIS حيث يرد ما لا يقل عن «700» من الإشارات إلى القصيبي وبينها عدد كبير يتصل بدوره سفيراً في لندن (1992-2002) من محاضرات ومقابلات ومقالات ورسائل مركزة كان يوجهها إلى الصحف البريطانية. أضف إلى ذلك ما تضمه القواعد والفهارس الأكاديمية الأخرى من مداخل تخص كتبه وكتاباته المنشورة في الإنكليزية وبعض قصائده وبينها قصيدته الموجهة إلى آيات الأخرس التي أثارت ضجة كبرى شوهت غالباً رؤية الشاعر سواء كان ذلك في الصحف البريطانية أو الأمريكية ومجلس العموم البريطاني أو الكونغرس الأمريكي أو في مقالات أو كتب متنوعة ومنها مقالة أكاديمية جادة نشرت عام 2005 في المجلة النسائية FEMINIST REVIEW حول الفتيات الفلسطينيات اللائي شاركن في العمليات الانتحارية.
لقد نشر القصيبي أولى دراساته بالإنكليزية عام 1965 في مجلة جمعية الدراسات الدولية BACKGROUND (شباط 1965 ص ص 221-256) تتناول فيها - بالشرح والتعليق - على حد تعبيره نظرية هانز (هانس) مورغنثاو HANS MORGENTHAU في العلاقات الدولية واعتباره القوة وحدها المفتاح لفهم السياسة أو العلاقات الدولية ويبدو أن القصيبي -كما قال- آمن بها أول الأمر إيماناً قاطعاً، غير أنه أعاد النظر في رؤيته في مرحلة الدكتوراه قائلاً:
غير أنني عندما بدأت دراستي في لندن على يد أستاذ من ألمع أساتذة المدرسة الحديثة في العلاقات الدولية، جون بيرتو، تبينت تدريجياً أن نظرية القوة، وحدها عاجزة عن شرح كل ما يدور في عالم السياسة. منذ ذلك الوقت وأنا أدرك أن كل النظريات التي تحاول اختزال مجموعة هائلة من الظواهر في «عامل» واحد أعجز من أن تشكل تفسيراً موضوعياً دقيقاً لهذه الظواهر. ينطبق هذا على نظرية فرويد في الجنس، ونظرية ماركس في التفسير المادي للتاريخ، ونظرية مورجنثاو في القوة، وعلى كل نظرية أخرى سواء طرحها عالم في كتاب أو إنسان عادي في مجلس. وأستطيع أن أقول بدون مبالغة إنني منذ ذلك الحين فقدت القدرة فكرياً على التعصب أو التطرف لصالح أي نظرية من النظريات، بل أي فكرة من الأفكار. منذ ذلك الحين وأنا أدرك أنه لا يمكن أن نقسم الألوان إلى لونين اثنين، أسود وأبيض، وأن هناك آفاقاً لا تنتهي من الظلال والألوان. (سيرة شعرية 70).
أذكر هذه الملاحظة (وأنا لست من طلاب علم السياسة أو العلاقات الدولية) لسببين أساسيين:
أولهما: التساؤل عن مدى انعكاس رؤية القصيبي المتطورة في كتابته ومواقفه غير الأدبية، أقول ذلك وقد جلب انتباهي ما جاء في كلمة الدكتورة سعاد الصباح «الموقف» (الاستثناء ص 299):
«في دراسته اقترب من كل ما هو بعيد عن الشعر والرواية والمقالة ولكن دراسة الحقوق والعلاقات الدولية ظلت أبعد ما تكون عن عطائه الحياتي الأغلى: الكلمة»
والسبب الآخر هو التنويه بأن دراسة القصيبي ظلت منذ ذلك التاريخ مرجعاً يستشهد به في عدد غير قليل من الدراسات التي تتناول نظرية هانزمورغنثاو في الإنكليزية وغيرها من اللغات بما فيها اللغة العربية كما يتجلى في تعليق د. سامي مسلم على كتاب «الحياة مفاوضات» لصائب عريقات:
ولا شك أن هذه النظرية لاقت من النقد الكثير في الخمسينات والستينات من النصف الثاني من القرن العشرين، لدرجة أن الأستاذ غازي القصيبي، وصف ذلك العصر بظاهرة «مورغنثاو ومنتقديه» انظر:
Ghazi A.R. Al Gosaibi, «The Theory of International Relations: Hans J. Morgenthau And His Critics, «Background, vol 8, No. 4, Feb. 1965 pp.221-256.
انظر: «المفاوضات والحياة.. على هامش كتاب صائب عريقات»: شبكة فلسطين المستقبل للإعلام: www.ppi.ps. 22-10-2010
أما أعمال القصيبي التي نشرت بالإنكليزية فتشمل ما لا يقل عن أربعة عشر كتاباً ظهرت بين 1970 و 2005 بينها عدد من أعماله الشعرية والروائية أمثال «من الشرق والصحراء» (1977 و»اللون عن الأوراد» (1995) و»الصقر محلقاً» (المنامة 2005) ورواياته «شقة الحرية» (1998) و»7» (1999) و»حكاية حب» (2002) وذلك بالإضافة إلى كتب أخرى «إستراتجية التصنيع في المملكة السعودية (1970) «مقالات عربية» (1982)، «أزمة الخليج» (1993) «مشكلة التنمية» (1995) «حياة في الإدارة» (1999) و»ثورة في السنة» (2004).
وهناك أخيراً جانب آخر ينبغي الالتفات إليه والإلمام به وتقويمه ألا وهو إسهام «القصيبي» في ترجمة نماذج من الشعر العربي الحديث أو القديم وفق نهج يعتمد التذوق الشخصي بدلاً من الالتزام بطرائق أكاديمية متبعة عادة كما فعل في مجموعته الأولى (من الشرق والصحراء) ومختاراته من أبيات مستقلة من الشعر القديم وقد نشرها بعنوان (LYRICS FROM ARABIA 1983) أو مجموعة «الريش والأفق FEATHERS AND THE HORIZON» (أستراليا 1989) التي أعدها بالمشاركة مع الشاعرة الأسترالية آن فيربيرن ANNE FAIRBAIRN وقد اختار فيها نماذج أو مقتطعات من شعر تسعين شاعراً عربياً.
لقد كان لي شرف التعريف بمحاولته الأولى قبل ثلاثين عاماً تقريباً (1978) في محاضرة رعاها نادي الرياض الأدبي ونشرها عام 1981 بعنوان - الشعر العربي الحديث مترجماً: ملاحظات حول محاولة غازي القصيبي ومن أهم ما أشرت إليه ما يلي:
وإذا انتقلنا إلى محاولة الشاعر غازي القصيبي لنقل بعض قصائده إلى اللغة الإنكليزية في مجموعته: «من الشرق والصحراء» المنشورة في لندن 1977، فإننا نجد أنفسنا أمام إحدى المحاولات القليلة التي يكون فيها الشاعر العربي هو المترجم أو المساهم في إعادة صياغة قصائد مختارة من شعره في لغة أخرى، وقد آثر الشاعر ألا ينص على أن قصائد مجموعته مترجمة عن العربية، غير أنه ليس من الصعب إرجاعها إلى أصولها الأولى موزعة في أربعة من دواوين الشاعر على الوجه المذكور في الجدول (2) حيث أدرجت عناوين القصائد وأصولها العربية. ص 20-21.
ولقد خيل لبعض النقاد أو الأساتذة أن قصائد «من الشرق والصحراء» كتبت أصلاً بالإنكليزية أي أنها غير مترجمة عن أصولها العربية، علماً بأني لم أقف على تصريح للدكتور القصيبي يشير إلى أنه اختارها من الدواوين الأربعة التي ذكرتها قبل اطلاعي على تصريحه بذلك في «سيرة شعرية» (ص 99). وقد أضاف معلومة مهمة عن جذورها التي ترجع إلى صيف 1967 حينما شارك في ندوة جامعة هارفرد الدولية بإلقاء ثلاث قصائد ترجمها إلى الإنكليزية بمساعدة أحد زملائه من أعضاء الندوة وهو شاعر يكتب بالإنكليزية قائلاً:
لقيت القصائد الكثير من الاستحسان وقد اقترح عليّ بعض الذين حضروا الندوة أن أطبع مجموعة بالإنكليزية ولكنني لم أعر الفكرة أي اهتمام. بعدها بحوالي سنة قام الصديق سليمان السليم بترجمة قصيدة «في شرقنا» إلى الإنكليزية ونشرها في مجلة الكلية التي كان يحضّر فيها للدكتوراه في الولايات المتحدة. وقد أخبرني أن ردود الفعل كانت ممتازة، الأمر الذي أثار فكرة طبع مجموعة كاملة مرة أخرى. بعدها سمعت الاقتراح عدة مرات من عدد من معارفي الذين يتحدثون الإنجليزية.
غير أن الفكرة لم تختمر إلا عندما أصرّ أحد الأصدقاء -وهو فنان بريطاني معروف- أن أقوم بنشر الديوان ويتولى هو تزيينه بالرسوم. وهذا كان. لقد طبعت من الديوان طبعتان ويفكر الناشر الآن أن يصدر طبعة ثالثة. كما أنه متحمس لطبع ديوان آخر أرجو أن تسمح لي الظروف بإعداده. لقد كانت الفكرة من طبع الديوان هو إيصال صوت عربي شعري معاصر إلى قراء الإنجليزية وأعتقد أنني بفضل الله نجحت في تحقيق جزء من الهدف.
(سيرة شعرية 2003 ص 99)
ولا شك في أن هذا التصريح يدل على اهتمام القصيبي المبكر بموضوع ترجمة الشعر العربي إلى الإنكليزية وحرصه على تجاوز حدودها الجغرافية التقليدية: بريطانيا والولايات المتحدة بدوره الاستثنائي في إعداد مجموعة «الريش والأفق» لقراء الإنكليزية في أستراليا بالتعاون مع الشاعرة الأسترالية آن فيربيرن كما أشارت في مقدمة المجموعة أو ألمحت شخصياً في كتابي:
(Modern Arabic Literature in Translation London: 2005)
ص 123 ودراسة الأستاذة أنجل تادرسن «تقويم ترجمة ديوان الريش والأفق» مجلة جامعة الملك عبدالعزيز (القسم الإنكليزي) مجلد عام 1995 ص 3-18.
وأخيراً لابد لي من الاعتراف بأن الملاحظات التي أبديتها في هذا العرض السريع لا ترسم إلا صورة مصغرة قد تكون باهتة الألوان لما للفقيد الراحل من آثار أو مكانة خارج حدود وطنه ولغته، غيرأن لي وطيد الأمل في أن تؤدي -بالرغم من إيجازها- إلى محاولات أشمل توثق وتقوم إسهامات القصيبي عالمياً.
* جامعة إنديانا