Al Jazirah NewsPaper Thursday  09/09/2010 G Issue 13860
الخميس 30 رمضان 1431   العدد  13860
 
البليهي والرفض الثقافي للفلاسفة العرب: ابن سينا مثالاً
عبدالله بن محمدالسعوي

 

المفكر الكبير إبراهيم البليهي أشار في مقالة متألقة له بعنوان (مفاخرتنا برواد لم نستجب لهم هو استدلال مقلوب) أشار إلى أن الحضارة الإسلامية بلغت شأواً لا يجارى في الحقل المتصل بعلوم اللغة والفقه وأصوله وعلوم الحديث..

.. سواء ما يتعلق بأسانيدها أو ماله ارتباط برواتها وأن الفعاليات المعرفية في الأمة رصدت وبدقة ملحوظة وبإنجاز مذهل كل ماله علاقة بهذا المجال وقد أبدعوا أيما إبداع وعلى نحو بالغ الاستثنائية في كافة ما يدلف في محيط اهتماماتهم وهي اهتمامات مسوغة ومنطقية وتأتي منسجمة مع الأهمية المركزية للدين في حياة الإنسان كما يقرر ذلك الأستاذ البليهي الذي يلفت الانتباه أيضا إلى قضية بالملاحظة قمينة وهي أن مبدعي الأمة لم يحرزوا نجاحا يوازي النجاح الآنف في مجال العلوم الطبيعية والحديثة فقد كانوا منصرفين عن ذلك ولم يسجل لهم أنهم أعاروه أدنى اهتمام وبالتالي لم يجسدوا ذلك التوهج ولم يكن له نصيب من التشكل والظهور. ولا مراء أن هذه حقيقة لا تقبل المراء فهي حقيقة متماسكة تظاهرها شواهد الواقع والوعي الموضوعي بحقيقة الذات يوقفنا وعن كثب على معالم صوابيتها والذين تألقوا في تلك المجالات وانقطعوا لها وحققوا أرصدة عليا في هذا الجانب كانوا غريبين على جغرافية النسق الثقافي الشائع فهم نشاز ومجرد حالات فردية لا تنهض لمستوى الظاهرة العامة وذلك كابن سينا وابن رشد وابن النفيس والكندي والرازي وابن الهيثم والفارابي وغيرهم من الفلاسفة العرب؛ بيد أن الرفض الثقافي العربي للطرح التنظيري لهؤلاء المبدعين هو ما يبعث على قدر كبير من الاندهاش والتساؤل والاستغراب لدى المفكر إبراهيم البليهي وبدور تلك القراءة التي في متناولنا أن تلقي الضوء على تلك النقطة المحورية المتمثلة في ذلك الرفض الثقافي لبعض ما طرحته تلك الشخصيات الاستثنائية في سياقنا الثقافي وهل هو رفض وجيه؟ وإذا كان الأمر كذلك فما مدى حظه من تلك الوجاهة؟ ومن هنا أقول: إننا لو تأملنا لألفينا الفكر الوسطي في الأمة - وأكرر الفكر الوسطي - يحفظ لأولئك العباقرة استثنائيتهم وينزلهم منازلهم ولا يصادر حقوق إبداعهم النوعي لكن أيضا لا يذوب في تراثهم بل يتعاطى معه بقدر من الغربلة المنهجية كما هو مقتضى اشتراطات التفلسف فيستقي منه من جهة ويتحامى الوقوع في محاذيره المعرفية من جهة أخرى والحكمة ضالة الحكيم فيستمدها بصرف النظر عن أي وعاء انبثقت.

إن التوازن مطلب والاعتدال منهج الأسوياء، والرفض المطلق ليس سوى الوجه الآخر للتبعية الشمولية، والمشغوف المعنّى لا يقلّ ازورارا عن الحقيقة عن الكاشح القالي فكلاهما وجهان لعملة واحدة، حيث التطرف هنا يُرفض على مستوى لكي تتم استعادته على مستوى آخر، وهكذا طبيعة الأشياء فالتطرف في أمر لا يكون إلا على حساب آخر لأنه ليس إلا ضربا من الاستغراق في شيء مقابل الفناء المتكامل عن نقيضه والقاسم المشترك هنا أن الميل هو الذي يحدو، والهوى هو من يحرك!. ونحن لو مضينا نستكنه ماهية النتاج الثقافي المتنوع لابن سينا على سبيل المثال - والذي سيكون نموذجا سأركز عليه في تلك المقالة وسأرجئ الحديث عن الأسماء الأخرى إلى مقالات لاحقة - لألفينا هذا الرجل- أمير الأطباء الذي عاش في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري والذي ينتسب إلى الإسماعيلية وهي كما هو معلوم فرقة باطنية من فرق الشيعة قد أحاط بعلوم جمة وله إنتاج ثري مثل أحد التجليات التنويرية للثقافة العربية في عصرها الذهبي وذلك ككتاب القانون في الطب والذي أثرى المشهد وبتألق لافت حتى أنه ترجم إلى لغات العالم المختلفة واعتمدت عليه الدراسات الأكاديمية في الشرق والغرب وكان مرجعا أوليا في بعض العلوم التجريبية وسطع نجمه في ربوع المعمورة وعلى مدى سبعة قرون وحتى القرن السابع عشر حينما قامت الثورة الطبية الحديثة وهذا ما يمنحه فرادته ويشكل سر شخصيته ولا مراء أن ذلك يمثل مصدر فخر ومبعث اعتزاز.

إن ابن سينا أبدى براعة فائقة في عدد من المسارات المعرفية فقد كان شاعرا وعالما وجيولوجيا وطبيبا ورياضيا وفلكيا وفيلسوفا إنه عبقري واسع الخيال قادر على الإلمام بنكت المعرفة وامتلاك ناصيتها بقليل عناء وكانت قدرته الفذة وذكاؤه الحاد من ذلك الضرب الذي يتجلى في شخصيته قبل أوان ظهوره عند نظرائه في السن والمواهب حيث في حوزته من الملكات ما يخرج عن وسع مثله ولذا قال عنه جورج سارتون: إنه أعجز من جاء بعده أن يجاريه.

لكننا من ناحية أخرى - وبما أن الميزان له كفتان - فإننا لو تأملنا لا على نحو تبسيطي في طرحه المتصل بعلم العقيدة لألفينا ضربا من التنظير السينوي الذي لا ينفك عن التمحور حول الفكر العقدي الإغريقي فهو يحذو حذو أستاذه الفارابي وينسج على منواله في اقتفاء الأثر الأرسطو طاليسي وغني عن القول ما في الفلسفة المشائية من تجديفات هائلة في قضايا الاعتقاد وقد أشار ابن طفيل (في قصة حي بن يقظان ص16-17) إلى هذه التبعية حيث قال: «أما كتب أرسطو طاليس فقد تكفل الشيخ أبوعلي (يقصد ابن سينا) بالتعبير عما فيها وجرى على مذهبه أي أرسطو وسلك طريق فلسفته في الشفاء... ثم إن من عُني بقراءة كتاب الشفاء (أحد كتب ابن سينا) وبقراءة كتب أرسطو طاليس ظهر له في أكثر الأمور أنها تتفق وأن في كتاب الشفاء أشياء لم تبلغ إلينا عن أرسطو «أي أنها وصلت عن طريق ابن سينا فحسب وهذا يدل على مدى الانفعال السينوي بالفكر العقائدي اليوناني ولذا فابن سينا فيما يتصل بالوجود الواجب يقرر أنه وجود مطلق بشرط الإطلاق وأن الذات الإلهية ذات بسيطة لا يقوم بها صفة ولا فعل وهذا مثال على محاولته للتقريب بين الفلسفة والإسلام!! حيث أرسطو لا يقول بأن ثمة وجودين: واجب وممكن. وعلى ضوء هذا فإن القول بأنه قرب بين الفلسفة والإسلام وأن الفلسفة لديه شِيبت بمعطيات الدين قول أقْوت من المؤشرات الدالة على ذلك وحقيقة الأمر خلاف هذا إذ كما يقرر الدكتور(رحاب عكاوي): «لم يحدث تغييرا كثيرا في مجموع فلسفة أرسطو التي لايمكن اتفاقها مع الدين الحنيف» (الشيخ الرئيس ص22) وابن القيم يقرر أنه تقريب أقرب إلى: «أقوال الجهمية الغالين في التجهم» ومن ثم يؤكد ابن القيم أن الجهمية «في غلوهم في تعطيلهم ونفيهم أسد مذهبا» (إغاثة اللهفان2/374) وفي (تاريخ الفلسفة ص217) يؤكد الدكتور (جميل صليبا) أنه لا يوجد في فلسفة ابن سينا شيء إلا وجذوره موجودة في فلسفة الفارابي؛ ومعلوم حجم المحاكاة الفارابية للفلسفة الأرسطية في جانب الميتافيزيقا.

أيضا الفكرة الفيضية وأن الواحد لا يصدر عنه الا واحد مبثوثة في كتبه حيث الإلحاح على فكرة الفيض المتوالي لدرجات الملكوت ودرجات الوجود والقول بالعقول العشرة، وأن العالم صدر عن العلة عن طريق الإيجاب لاعن طريق الاختيار والمشيئة. أما الملائكة فهم ليسوا ذوات تصعد وتنزل بل هم عبارة عن أشكال نورانية، أما الكتب فهي فيض من العقل الفعال وهو العقل العاشر = (عقل القمر) على جملة من العباقرة، أما النبي فهو عبقري يتحلى بسمات محددة وكل من توفرت فيه في نظر ابن سينا فهو نبي وهذه السمات هي قوة الإدراك وقوة التخيل وقوة التخييل وقوة التأثير، وقد رد ابن تيمية ذلك مؤكدا أن هذا: « يحصل لخلق كثير من آحاد الناس ومن المؤمنين، ومع لك ف ليس هو من أفضل عموم المؤمنين فضلا عن كونه نبيا»(منهاج السنة 8/24)

ويذهب ابن سينا أيضا إلى أن الفيلسوف أعلى رتبة من النبي؛ لأن النبوة فلسفة العامة أما الفلسفة فهي نبوة الخاصة ونبوة الخاصة أعلى في السلم التراتبي من نبوة العامة. والأنبياء شخصيات قيادية تسوس المجتمعات وتنظم مساراتهم على هذه الحياة ليتعايشوا فيما بينهم بسلام فيرهبونهم بعذاب النار ويرغبونهم بثواب الجنة لكي يتسنى لهم السيطرة على الناس وإلا في الواقع فليس ثمة وجود مادي لا لجنة ولا لنار وليس ثمة بعث للأبدان، هذه هي الخطوط العريضة في هذا الفكر والكتب الناطقة بذلك موجودة ككتاب(النجاة) مختصر الشفاء، وهي طافحة بمثل ما أومأت إليه وهذا ما حدا بمفكر كابن القيم الجوزية للتعاطي معه بحسبه يمثل ذروة سنام المنظومة الإلحادية انظر(إغاثة اللهفان2/267) وتحاشيا للإطناب أحيل الباحث إلى جملة من الكتب التي بسطت الدندنة حول الأطروحة السينية ورصدت ما تلبست به من محاذير انظر على سبيل المثال:(شفاء العليل ص14) و(درءالتعارض1/5،289/54) وانظر أيضا (اجتماع الجيوش الإسلامية 1/45) و(الصفدية2/297) و(الجواب الصحيح4/463) و (مفتاح دارالسعادة2/119) و(الرد على المنطقيين 141) و(نقض المنطق 87) و(منهاج السنة3/287) و(سير إعلام النبلاء17/535) و (التهافت) و (المنقذ من الضلال)للإمام الغزالي في معظم أطروحته الذائعة الصيت، وانظر أيضا التعليق على النونية للإمام الراحل (ابن عثيمين) رحمه الله. طبعا ابن سينا لا يتحفظ على انتمائه، بل يصرح قائلا: «أنا وأبي من دعوة الحاكم العبيدي» ومعلوم أن الحاكم العبيدي لا يتعاطى بالتصديق مع أركان الإيمان الستة.

واستمع إلى ابن القيم حيث يقول: « وكان ابن سينا كما أخبر عن نفسه قال أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد ولا رب خالق ولا رسول مبعوث...يتسترون بالرفض ويبطنون الإلحاد المحض»(إغاثة اللهفان2/266) وله كتاب (الإشارات) يقول عنه ابن تيمية: «وإشارات ابن سينا يعرف جمهور المسلمين الذين يعرفون دين الإسلام أن فيه إلحادا كثيرا» (منهاج السنة5/433) وأما من ناحية علم المنطق فمعروف عن ابن سينا أنه يغلب جانب القياس المشائي ونتيجة لذلك حكم بعدم حجية المتواترات إلا لدى من وقف عليها عن كثب والمشهورات كذلك قال بعدم يقينيتها، وهكذا على هذا النحو يتحرك النمط العقائدي عند الشيخ الرئيس وقد تصدى ابن تيمية لتلك الأفكار وقد أومأت إلى شيء من هذا في بعض المقالات المتصلة بعلم المنطق.

ومحصول القول: إذا تبلور ما سلف ظفرنا بحقيقة متماسكة تنطق ملامحها بوجاهة الرفض الثقافي لفلسفة ابن سينا المتصلة بالاعتقاد على وجه التحديد وأما ماعدا ذلك من وجوه الإبداع لديه فلابد أن يتم التعاطي معها بدرجات عالية من الحفاوة والإفادة من معطياتها واستقطاب مآثرها على أفضل مستوى متاح وبأعلى درجة ممكنة.



Abdalla_2015@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد