Al Jazirah NewsPaper Thursday  09/09/2010 G Issue 13860
الخميس 30 رمضان 1431   العدد  13860
 

في التعقيب على سعد البواردي:
عندما يكون النّاقد أعجل من الشاعر(6-6)
أ.د. ظافر بن علي القرني

 

ونواصل النّظر في قراءة ديوان «خمول في زمن الازدهار» فنجد النّاقد اختار من قصيدة «أبها» مطلعها القائل:

«النّفس للعلياء قرّبها

وتولّها بالحقّ ما بقيت

لو أرهقتك ببعض أخيلةٍ

ومنازل الخيلاء جنّبها

وعلى شؤون الصّبر درّبها

أوغلت في اللّهو عاتبها»

وقال: «لا أدري لمن يوجه خطابه، ألربّه تعالى القادر على كلّ شيء؟ لا أرى أحدًا غيره». والواقع أن الشّاعر يخاطب ذاته لا ربّه. ولو أنّ الخطاب لربّه جلّ وعلا، لما جاء بهذه الكيفيّة ولا بهذه الصيغة مطلقًا. استغفر ربّك أيّها النّاقد.

ثمّ واصلَ مع الشّاعر:

«وارفق بهـا إذا جمحت أو قارفت ذنبًا فأدبها»،

فسقطت كلمة «حتّى» بعد «وارفق بها». ثم استزاد من القصيدة:

«يا منزل الأمجاد إنَّ لنا

أبها يلين الصَّعب من شيمٍ

وإذا أتيت إلى منابتها

وتقرَّ أطراف السَّحاب هنا

ودع الجنائن في أماكنها

ذكرى فسِل يا حبر واكتبها

مُثلى فخذ منها وقاربها

ناج الطُّيور بها وصاحبها

واصعد معارج لم ترتبها

لا تقطعِ الخضرا وتسحبها»

فقال: «الشّطر الأخير يعتريه الكثير من الكلل والجفاف... ألا ترى معي أن يكون على النّحو التالي: (لا تلقها شرًّا فتغضبها)». أقول: قد يكون هذا، ولكنّه لو أتى بالبيت التّالي لهذا البيت لعُلم قصدي من القطع والسّحب. يقول البيت: «أتقيمها في مهمهٍ قلقٍ / عالجت لكن لم يناسبها». فالمعنى الّذي أقصده شطّ عنه النّاقد، فشرع في التغيير حسب ما تصوّره من النّص.

ووصل إلى آخر بيتٍ في القصيدة:

«وعش الطبيعة مثلما خُلقت

ودع الخداع فأنت في أبها»

فعلّق بقوله: «وأيضًا السّطر الأخير لا مكان للخداع فيه... أحسب الأجدى هكذا.. (ودع الأذيّة أنت في أبها).»

ويردف قائلاً حسب ما فهمه من القصيدة: «بهذا الحرص على طبيعتها الخلاّبة من أن تشوه مفاتنها وجد نفسه محاميًا.. حاميًا في وجه الذين يشوهون وجه الطبيعة بتجاوزاتهم ولا مبالاتهم.»

لقد جئتُ إلى أبها بدعوة من رئيس ناديها الأدبيّ السّابق الأستاذ الفاضل محمد بن عبدالله بن حميّد لإلقاء محاضرة عن علوم الهندسة المساحيّة في المجالين المدني والعسكريّ. فكان الاستقبال جميلاً من قبله، وكان محل الإقامة مذهلاً في فندق قصر أبها حيث رذاذ المطر، وجمال الطبيعة، وانشراح النّفس. ولأنّي قدمت إلى أبها من بيئة، مكانتها في النّفس كمكانة أبها، ولكنّها مغايرة لها في الطّبيعة، فالأشجار تنتزع من أماكنها لتغرس في أماكن أخرى ما ألفتها؛ والجهود مضنية لتحويل البيئة من حال إلى حال؛ هنا جاءت فكرة القصيدة. فكتبتها في الفندق على عجل، عين منّي على عيون الشّعر وعين في عيون الماء المتدفّقة من الجبال، ورشاش المطر الرّافد لها من السّماء، وألزمت نفسي فيها بما ألزم أبو العلاء نفسه في لزومياته؛ ثمّ أقبلت بها إلى مقرّ الأمسية فقرأتها تقديرًا لمن حضر من رموز الثقافة هناك. إذا فُهم هذا، وقد ذكرته في الديوان، عُلم أن ما اقترحه الأستاذ سعد هو مناسب إذا غيّرنا معنى القصيدة إلى معناه؛ ولكن هذا سيضعفها لأنّ معناها هو أهم مقومات وجودها، ولا أدّعي لها أكثر من ذلك.

وقد رأيت قبل أشهر قليلة شيئًا من سوء نتائج قطع الأشجار، وسحبها من أماكنها، وزرعها في أماكن ما ألفتها.

فحين هبّت عاصفة المطر الإثنينيّة على عاصمتنا الحبيبة، كانت أشجار النخيل تموج موجًا عنيفًا في منتصف الشّارع، وكنت أنظر لما يليني منها وأتذكّر قول أبي العلاء:

«وردنا ماء دجلة خير ماءٍ /وزرنا أشرف الشجر النخيلا»

وأقول: إذا تُرك في أماكنه، ولا حشر في طرقات السّير. إنّه لو انقصعت إحدى هذه النخلات للبث من وقعت عليه في بطن سيارته إلى يوم يبعثون.

وجاء إلى قصيدة «أمل دنقل» فأشاد بها، ونقل منها للقراء جزءًا لا بأس به، منه هذه الجمل الثلاث:

«لو لم يكن لك إلاّ قصيدة لا تصالح»؛ فسقطت كلمة بيننا من بعد «لك».

و«نهشتك ألسنة الجوارح» وهي ألسنةٌ جوارح.

و«ومددت كفّك للحقيقة لا تزيد.. لا تبارح»، وهي لا تزيد ولا تبارح.

وقلت في القصيدة:

«هل يشعر البحر المحيط بقشّة تعلو وتهوي حسب ما يعلو ويهوي فيه موج لا يحسّ بأي سابح»، فجعل البحر المحيط هو أمل دنقل؛ حيث قال:

«ويصرخ في وجه الأدعياء الأغبياء الذين تناولوه بسهامهم ذماً وقدحاً كما لو أنهم مجرد هباء..» والشّاعر لا يقصد بذلك الشّاعر وإنّما يقصد العدوّ المتربّص بنا، وذلك واضح من سياق القصيدة. ولو قصدت بهذه الكلمات وما بعدها الشّاعر أكون من المغالين في المديح المذموم، وأعوذ بالله أن أكون كذلك.

ويأتي إلى قصيدة «خارطة القدس» فينقل منها مقطعًا شابه بعض الشوائب، وهو:

«لا يرى الرّاحة إلاّ بعد أن يحدث في الأجواء ربكه

ثمّ لا يرحل إلاّ بعد أن يغرس في نحر بلاد النّاس شوكه

أوما تبصر في أرجاء هذا العالم المسلم قتله».

ومن الواضح الخلل في تاء كلمتي «ربكه» و»شوكه»؛ أمّا كلمة قتله فهي من عند النّاقد إذ هي في الديوان «فتكه»؛ فالقصائد على قوافيها تقوم.

على أنني لا أنكر سعادتي بثناء الأستاذ سعد على قصائد الديوان التي استعرضها؛ وإشادته بمنهج شاعرها؛ فخبرة البواردي في الحياة ليست قليلة، ورأيه معتبر، دون ريب. وقد شعرت في هذه القراءة أنّ النّاقد يقترب من نصوص الشّاعر، على غير ما كان منه في الديوانين السّابقين. وأشير هنا إلى أنّ استعجال الناقد في نقده لم يقتصر على ما ظهر لنا من خلل في فهم بعض المعاني وتشويه المباني، بل تجاوز ذلك إلى ضعف في بعض عباراته الّتي علّق بها على النّصوص. مثال ذلك قوله: «(النمو المطرد) وجه آخر من واقع وجوده الذي قسا عليه لأنه هو بعض وجوده وجوده».

وقوله: «لماذا الخيبة؟ هل كان صائباً وتمنيت صوابه؟ أجمل من الخيبة أن تلقاه وقد طاب ظنك». وقوله: «الإنهاك محصلة جهد شاق لا تتحمّل قدرات الإنسان على احتماله». فهذه أمثلة على عبارات استثقلتها ورأيت إمكانيّة صياغتها بأسلوب أجمل، وكذلك لاحظت بعض الأخطاء النّحويّة في إلحاقه الباء بما يريد إبقاءه عند استبدال كلمة بكلمة أو جملة بجملة، والأولى أن تلحق بما يريد حذفه.

يقول الله تعالى للنّاس: ولا تتبدّلوا الخبيث بالطّيب». ولم يقل الطيّب بالخبيث. ويقول تعالى منكرًا على بني إسرائيل: «أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خير»؛ والأمثلة كثيرة.

أخلص إلى القول: إنّ العلاقة بيني وبين الأستاذ سعد البواردي علاقة معرفة بالكلمة، نتأمّلها ونعرف شيئًا من أثرها وتأثيرها، على قدر الاستطاعة. وهو لا يعرفني لكي يجاملني بثناء، أو يجور عليّ بغيره. إنّما هو قرأ الدواوين على سجيته، متّكئًا على تجربةٍ طويلةٍ ثريّة؛ جعلته لا يركّز حقّ التّركيز على ما بين يديه من تجربة لغيره، في زمنٍ غير زمنه؛ فصبغها، على عجل، بصبغته المعرفيّة؛ فجاءت كما وجدناها مختلفة عمّا ينبغي أن تكون عليه. ويبقى للأستاذ سعد فضل قراءة الدواوين الثلاثة، وتناولها مرتّبة والخروج بصورة ما عن شاعرها. ولئن كنت قد استفدت من القراءة فعرفت شيئًا ما من ميول النّاقد؛ فإنّ القرّاء أنفسهم لم يستفيدوا لأنّه جعل بينهم وبين هذه الدّواوين جبلاً من رماد.

أستاذ الهندسة المساحيّة - جامعة الملك سعود

dalgarni@ksu.edu.sa

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد