لم يحظَ رمز مجتمعي في الزمن المعاصر بما حظي به الدكتور غازي القصيبي -عليه رحمة الله- من اهتمام سايره في حياته وتابعه بعد مماته، ومن دوافع متصلة بالشخص والنص وحدهما دون اتكاء على منافع ذاتية تستجلب شُبَه المجاملة والمنافقة بدوافع ذاتية أو نوازع مؤدلجة.
ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وكنا نتمنى أن يكون «الراثون» قد تقدموا قليلا؛ ليقرأ الراحل شيئا من فيض مشاعرهم، لكنها بكائيات العرب التي تستمطر الدموع وتضن بالابتسامات، كما هي حال العرب التي ترى في الموت منفذا لها لترثي نفسها أكثر مما ترثي فقيدها؛ فالزمن للبكاء داخل السقوط الكبير الذي تتردى به الأمة دون أن ينبلج ضوء آخر النفق الذي ما نزال نحلم برؤيته.
وقد عتب بعض المتابعين علينا أن قد بالغنا لدرجة ارتضينا معها نشر رأي يفضل القصيبي على المتنبي ونبرزه بالخط العريض، ونجزم معهم أن لو كان غازي حيا لزم شفتيه غير عابئ بهذا المديح؛ فقد رأى ونرى أبا الطيب عظيم الشعر العربي، كما أدرك أبو يارا -عليه رضوان الله- أنه شاعر لكنه ليس الشاعر، وأنه روائي لكنه ليس الروائي، وأنه إداري لكنه ليس الإداري، وندرك كذلك أنه الظاهرة والاستثناء في تعدده وشموليته ووعيه وسعيه ومبدئيته وصدقه وإبداعه وإمتاعه، حتى باتت كتبه السبعون وسنواته السبعون تشمخ به فوق النسب والنشب، وعمره الآتي سيكون أطول وأجمل.
عبر الناس عن مشاعرهم بتلقائية، ونُشر الأقل لا الأفضل، وهنا دور من سيرصد (الوفاة- الحدث) ويوثقها كي يختار، وقد يحتار، فبعضها كثير وجدير وبعضها مكرور وفقير، والمؤكد -بخلاف ما نقله صديق عاتب- إلا أدلجة خلف هذا الاهتمام وإن بدا غير مسبوق، ولو علم المنتقدون لعرفوا أن أرتالا من الصفحات لم يأذن لها الوقت والمساحة بالظهور.
ليتنا نتذكر كبارنا الباقين بيننا اليوم فنشعرهم أننا نحمل لهم مكنونات الاعتزاز بدلا من أن ننتظر إطلالة الحقيقة الحتمية لنستغفر عن التقصير بمعلقات التبرير، ونبكي أنفسنا التي تعيش اليتم كل يوم، وليتنا نتوفر على تأسيس مشروعات ثقافية كبيرة تحمل وسومهم ورسومهم؛ فالفعل هو الأهم، والمَعْلم هو البقاء والوفاء والانتماء.