لحظات (الفراق) وساعات (الرحيل) وأوقات (الاعتقاد اليقيني) بعدم اللقاء من أصعب (المواقف) التي تمر على الإنسان، فهي (مواقف) و(مشاهد) لا يمكن أن يتصورها ويحسها ويعرف معناها ويعيش (آلامها) و(أحزانها) إلا من اكتوى بنارها، ووطئ جمر لهيبها، فحينها يستطيع المرء أن يعي حجم (المعاناة) ومدى (الألم) الذي يشعر به (المفجوعون)..
|
وإذا كان هذا الأمر ينطبق على الناس جميعا، ويشعر به الخلق كلهم، فإن (الشعراء) هم أقدر الناس على (تصوير) هذا (الإحساس)، وأكثرهم تمكناً من (تشكيل) هذه (المعاناة)، وأبدعهم في (رسم) لوحات (الحزن) و(الألم) بكل صدق وواقعية.
|
ولا شك أن اختلاف (مستويات) (الحزن) و(تفاوت) (الشعور) ب(الألم) تختلف باختلاف (قيمة) الراحل و(مكانته) لدى المكلوم، ولم يكن (ابن الرومي) الشاعر العباسي الرقيق بدعاً من مواجهة (مصائب) الزمان و(نوائب) الدهر، فقد فُجع بوفاة أحد أبنائه، وكُلم بفقد فلذة من فلذات كبده، وهو الذي كان يرى في عينيه بوارق (الأمل) وعظيم (الطموحات)، فلم يكن أمامه إلا أن ينفِّس عن (ألمه) ويكشف عن مدى (جرحه) من خلال (نص) من أروع نصوص (الأدب العربي) في (الرثاء)، وهنا أختار (مشهداً) هو الأول من مشاهد هذا (النص) المتميز لعلي أستجلي شيئاً من (جمالياته)، وأكشف عن بعضٍ من (عبقرياته)، يقول ابن الرومي:
|
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي |
فجودا، فقد أودى نظيركما عندي |
بُنَيَّ الذي أهدْتهُ كَفَّايَ للثَّرَى |
فيا عزَّةَ المُهْدَى ويا حَسْرَةَ المُهْدِي |
ألا قَاتَلَ الله المنايا وَرَمْيَها |
منِ القومِ حَبّاتِ القلوبِ على عَمْدِ |
توخَّى حِمَامُ الموتِ أوسطَ صبيتي |
فلله كيف اخْتارَ واسطةَ العِقْدِ؟! |
على حين شمتُ الخيرَ مِنْ لَمَحاتِهِ |
وآنستُ مِن أفعالِه آيةَ الرُّشدِ |
طواهُ الرَّدى عنِّي فأضحى مَزَارُهُ |
بعيداً على قُربٍ قريباً على بُعدِ |
لقد أنجزتْ فيه المنايا وعيدَها |
وأخْلَفَتِ الآمالُ ما كان مِنْ وَعْدِ |
هذا (المشهد) الحزين هو أول مشاهد هذا (النص) الرثائي المتميز الذي جادت به علينا قريحة (ابن الرومي) الشاعر العباسي المتألق الذي لم ينل حقه من الاحتفاء من خلال كتب تاريخ (الأدب العربي)، وهو هنا (يتوجع) و(يتفجع) (حزناً) و(ألماً) على فقد أحد أبنائه الذين كان متعلقاً بهم أشد التعلق، فلما داهم (الموت) أحدهم لم يستطع أن يتماسك، فقد أصابه (حزن) كبير و(ألم) عظيم، وما هذا (المشهد) الذي أحاول التحليق في (فضاءاته) إلا مظهر من مظاهر هذا (الحزن)، ودمعة ثكلى من دموعه التي ذرفها على فلذة كبده الراحل.
|
يفتتح (ابن الرومي) (نصه) هذا بتوجيه (الخطاب) إلى عينيه وهو يراهما تنتحبان لفقد ابنه الراحل، فيخبرهما أن بكاءهما ربما يشفي من (الحزن) الذي اجتاحه بسبب هذا (الفقد) العظيم وربما يخفف من (الألم) الذي أصابه لرحيل أحد أبنائه، لكنه بالتأكيد لن يجدي نفعاً ولن يكون سبباً في إعادة هذا (الابن) الحبيب الذي خطفه (الموت)، وما دام الأمر كذلك فلا ضير أن يجودا بالدمع ويستمرا في البكاء، فالمصيبة التي حلت به تستحق أن تذرف لأجلها (العيون)، وتتقطع لأجلها (القلوب)، فهذا الميت الذاهب نظير لهاتين العينين ومثلهما في (المنزلة) و(المكانة)، وهل هناك أغلى على الإنسان من عينيه التي يرى بهما؟
|
ثم يخبرنا (ابن الرومي) بشكل أوضح عن (مصيبته) التي حلت به و(فاجعته) التي حطت لديه، فيخبر بصورة (حزينة) (متألمة) أنه قد قام بدفنه بنفسه، فلم تكن (الكفان) اللتان وضعتاه في (الثرى) سوى كفي (أبيه) الذي يبكي عليه في هذا (النص) الحزين ويتألم لأجله، ويبدع (ابن الرومي) حين يصور هذا (الدفن) بصورة (الإهداء)، فهو حين يقوم بمواراة (جثمانه) تحت (الثرى) فكأنه يهدي إلى هذا الثرى (هدية) قيمة ثمينة، وفي هذا إشارة إلى (القيمة العالية) و(المكانة المرتفعة) التي كان (ابنه) الراحل يحتلها في قلبه، ولذلك فهو يغبط هذا (الثرى) الذي استلم هذه (الهدية)، ويتحسر على (المهدي) الذي أهداها رغماً عنه وغصباً عليه، وفي كل هذا إشارة إلى (عظم مصيبته)، و(شدة تعلقه) بابنه الراحل.
|
ثم ترتفع عند (ابن الرومي) حدة (الألم) وعظم (المصيبة)، فتبدو ملامح (الجزع) و(الغضب) و(عدم الرضا)، فيدعو على (الموت) الذي خطف ابنه من بين يديه، ويتحسب على هذه (المنايا) التي تتعمد إصابة الناس في أعزِّ ما يملكون، وأغلى ما يحبون.
|
وفي البيت الرابع من هذا المشهد يخبر (ابن الرومي) بشكل أدق عما حصل تماماً، ويحدد لنا هوية ابنه الذي داهمته (المنية)، فيكشف عن أن (الموت) قد اختار (أوسطهم)، ويتعجب متحسراً متألماً من هذا الاختيار، ويُشبِّه (الأبناء) أثناء ذلك ب(العقد الثمين) الذي تتوالى حباته ألقاً وجمالا؛ لذا فهو يتعجب من هذا (الموت) الذي أبى إلا أن يختار (وسط) هذا (العقد)، وهو الذي عادة ما يكون أكثر ما فيه (جمالاً) و(بهاءً).
|
ثم يزيد شاعرنا (الحزين) في بيان هول (مصيبته) وعظم (فجيعته) حينما يكشف عن (الوقت) الذي توخى فيه (الموت) ابنه، و(العمر) الذي خطفت فيه (المنية) فلذة كبده، فقد رحل (الابن) حين أحس (والده) ببوادر (الخير) و(الصلاح) تبدو على قسماته، وحين آنس من أفعاله علامات (الرشد) ودلائل (العقل) و(الرزانة)، وهذا يدل على حجم (المصيبة) التي وقعت على قلب هذا (الوالد) الحزين؛ لأنَّ (الابن) حين تظهر عليه تلك العلامات فإنها تدل على أنه قد وصل إلى مرحلة عمرية يشتد فيها تعلق والده به، وتكبر (آماله) فيه، وتعظم (طموحاته) لأجله، فإذا ما هجم (الموت) عليه حينها فإنَّ (الفاجعة) تصل إلى الغاية، و(المصيبة) تبلغ المنتهى.
|
ويستمر شاعرنا (المتألم) في الإفصاح عن (معاناته) والكشف عن (آلامه)، فيوضح أنَّ الموت قد تسبب في إبعاد (ابنه) وتغييبه عنه؛ ولذلك فقد أصبح مزاره (بعيداً) نائياً على الرغم من (قرب) طيفه وخياله من قلبه وعقله، فهو بذلك (قريب) (بعيد)، وواضح ما في هذا البيت من (طباق) و(مقابلة) و(عكس وتبديل) أبدع (ابن الرومي) في توظيفها لصياغة هذا (المعنى المتميز)، وتألق في استثمارها لبيان حجم (مصيبته) وبيان قيمة (ابنه) الراحل، و(شعوره الحزين) الذي كان يحس به حيال هذا (الفقد الرهيب).
|
ويستمر (ابن الرومي) في توظيف هذه (المقابلات) و(المتضادات) بكل براعة وتألق للكشف عن هذه (المصيبة) الكبيرة وهذا (الفقد) العظيم، كما يستخدم (التشخيص) و(التجسيد) و(الاستعارة) و(المجاز) لصياغة هذا (المعنى) الحزين، فهو يخبر أن (المنايا) قد هددت وتوعدت أن تأخذه من بين يدي والده، وأن تخطفه من بين عينيه، وها هي اليوم تنجز هذا (الوعيد) وتوفي بهذا (التهديد)، أما (الآمال) فقد وعدت هي الأخرى بإبقائه، وأن يكون بحجم طموحات والده وآماله وتطلعاته، لكنها أخلفت هذا (الوعد)، ولم تف به؛ ولذلك هو الآن في ركب الراحلين وضمن عداد الميتين.
|
لقد أبدع (ابن الرومي) في هذا (البيت)، وصاغه على أروع ما تكون الصياغة، فقد (شخَّص) (المنايا) وجعلها كالمرء الذي يهدد ويتوعد ثم ينجز ذلك، و(جسَّد) (الآمال) وجعلها كالمرء الذي يعِدُ ثم يغدر بهذا الوعد ويُخلفه، ثم انظر أيها القارئ الكريم إلى (المقابلة) الرائعة التي اعتمد عليها (ابن الرومي) في صياغة هذا (البيت) على هذا النحو الاستثنائي، ف(أنجزت) تقابل (أخلفت)، و(المنايا) تقابل (الآمال)، و(الوعيد) يقابل (الوعد).
|
لقد كان ابن الرومي يتألم أشد (الألم) ويتحسر أعظم (التحسر) بسبب فقد (ابنه) الراحل، وقد ظهر ذلك بشكل واضح من خلال هذا (المشهد) من هذا (النص) الرثائي الحزين، واتضحت (معاناته) و(آلامه) من خلال (صياغته) و(ألفاظه) و(أسلوبه)، وكانت (كلماته) و(صوره) تفيض (حزناً) و(ألماً) على هذه (المصيبة) العظيمة التي حلت به.
|
|