Al Jazirah NewsPaper Thursday  09/09/2010 G Issue 13860
الخميس 30 رمضان 1431   العدد  13860
 

البلاغة العربية: ما لها وما عليها
أ.د. عبد الكريم محمد الأسعد*

 

اجتمع الباحثون على القول بأن لغتنا العربية لغة ثرية مطواعة تتسم بالمرونة القصوى التي لا يتاح مثلها - فيما أعلم - في اللغات الأخرى، فالمفرد (شيخ) على سبيل المثال له ستة جموع من لون واحد هو (التكسير)..

وهي كما جاء في قول الناظم:

مشايخ مشيوخاء مشيخة

كذا شيوخ وأشياخ وشيخان

وجمع على الصرف الأوائل أوزاناً عنونوا لها (بباب صيغ المبالغة) وحصروا (القياسية) منها في خمس صيغ هي (فعول وفعال ومفعال وفعيل وفعل) فقالوا مثلاً (أكول بدل اسم الفاعل على آكل) و(نكاح أو منكاح بدل اسم الفاعل ناكح) وهلم جرا، هذا بالاضافة إلى أوزان أخرى للمبالغة (سماعية) كثيرة مبثوثة في المعاجم اللغوية.

ومن الأدلة الجلية على ما تتميز به اللغة العربية (إلى جانب الجموع المتنوعة وصيغ المبالغة المتعددة) مباحث علوم البلاغة الثلاثة المعاني والبيان والبديع) الدقيقة التي تضم ألواناً جميلة كالإيجاز والمساواة والإطناب والفصل والوصل وقصر الصفة على الموصوف والموصوف على الصفة ومطابقة الكلام وعدم مطابقته مقتضى الحال.

وكالتشبيه العادي والمقلوب والحقيقة وإعجاز بقسميه (المرسل وبالاستعارة) والكناية وكالجناس والسجع وحسن التعليل والذم بما يشبه المدح وعكسه.

ويضاف إلى هذه الأدلة ما في متن اللغة من كثرة الاحتمالات، ودقة التوريات، وتشقيق المباني والمعاني، والترادف، والقرائن الظاهرة والمضمرة، والحذف والتقدير، وتنوع الأساليب والمضامين، ووجود علامات الإعراب، وكثرة اللغات واختلافها نحو (ليس من إمبر صيام في أمسفر) على إحدى اللغات بدلاً من (ليس من البر صيام في السفر) على اللغة المشهورة (على اعتبار أن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)، ودقة العلاقات الوثيقة بين الألفاظ والمعاني التي سماها ابن جني (مصاقبة الألفاظ للمعاني) وعقد لها في كتابه (الخصائص) باباً خاصاً بها وتحدث عنها أكثر من مرة في أبحاث متفرقة منه.

وفي كل علم من علوم العربية، وفي كل باب من أبواب هذه العلوم مزايا لا تتوافر في أية لغة وميزات لا تجدها في سوى العربية مما يمكن معه تسميتها (لغة الإعجاز).

ولعل مرد سيادة المبالغة بدرجاتها المتفاوتة في لغتنا وحياتنا أن اللغة العربية تسمح أكثر من غيرها من اللغات بانطلاق الخيال، ولا تحول دون التوسع في التصور والتصوير، وأنها تطاوع الاقلام، وتفتق الأفهام، وتتسع للمداعبات الظريفة.

جمعني ذات يوم مجلس بأديب خفيف الظل تعودت أن أدعوه إلى مأدبة بين فينة وأخرى وحين طال انتظاره في إحدى المرات (للعزومة) المعتادة سألني فجأة أمام الحضور عن مفرد الجمع (عزائم) في بيت المتنبي (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) فأجبته بأنه (عزيمة)، فقال لي: لا إنه (عزومة) بدليل الشطر الثاني من البيت وهو (وتأتي على قدر الكرام الولائم) فأصبحت (المكارم في هذا الشطر) عنده بقدرة قادر (الولائم)، ولعله قصد بسؤاله أن يعتب علي وأن يعرض ببخلي الذي توهمه حقيقة وما هو بحقيقة.

وقد عد البلاغيون العرب القدامى المبالغة من المحسنات البديعية المرغوبة في الأسلوب الأدبي، وعقدوا لها باباً خاصاً سموه بها، وجعلوا هذا الباب واحداً من أهم أبواب علم البديع.

إن هذا لا يعني - فيما أرى - وجوب استحسان صور المبالغة برمتها لأن بعضها ممتلىء بالمبالغة المتطرفة التي تجاوزت الحد وتحولت إلى كذب أو إلى ما يشبه الكذب وإلى قلب للحقائق فأصبحت بذلك رديئة سبقت بتكلف في غير المساق الطبيعي الصادق المقبول وعملت من (الحبة قبة) كما يقول العوام.

ومن أمثلة النوع المستنكر من المبالغة قول أبي العتاهية مهنئاً الخليفة العباسي الهادي بالخلافة:

أتته الخلافة منقادة

إليه تجرجر أذيالها

فلم تك تصلح إلا له

ولم يك يصلح إلا لها

ووجه المبالغة المستكرهة في هذين البيتين ما فيهما من التفاف الظاهر بمقاييس كل العصور والشطط الكامل في تقدير الجميع، لأن الشاعر قرر بهما استمالة أن تختار الخلافة غير الممدوح لتبوء سدتها ولتمنحه نفسها، وأنه لابد من أن تأتي له وحده طائعة لما يتمتع به من ميزات وقدرات خارقة ليست عند غيره، وهذا بالطبع مما لا يقبله عقل ولا منطق.

أما قول امرىء القيس في وصف سرعة فرسه وأنها تفوق سرعة البرق والصخرة الهاوية:

مكر مفر مقبل مدبر معاً

كجلمود صخر حطه السيل من عل

وقول الفرزدق مادحاً زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب:

ما قال لا قط إلا في تشهده

لولا التشهد كانت لاؤه نعم

وقول المتنبي مفتخراً بنفسه وبشعره:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

وقوله أيضاً في الغرض نفسه:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

فقد تختلف فيها الأنظار ما بين مستملح يرى أن الشعراء الثلاثة أجادوا المبالغة في أبياتهم الأربعة بعذوبة ورقة ودماثة، أو بفخر لطيف ودلال ظريف، ومستقبح يرى أنهم أساؤوا حين بالغوا كثيراً في تصوير أغراضهم بشكل مستفز وعلى وجه التحدي، أما أنا فأعد هذه الأبيات ونحوها من قبيل (الحامض الحلو) أي (المز).

ومهما يكن من أمر فإن مسؤولية ما تقع على عاتق اللغة العربية ذاتها، وهي مسؤولية تكمن في أنها بمرونتها وحيويتها ساعدت إلى حد كبير على انتشار المبالغة المزيفة وشيوعها، كما أن تخلفنا من جهة وطبيعة لغتنا الفضفاضة من جهة أخرى قد أديا إلى هذا الشيوع والانتشار.

على أن المبالغة تبقى سائغة شريطة أن تكون عفوية غير نابية ولا مقحمة ولا مبالغ فيها، ومبرأة من الغرض فنزهة عن الهوى خالية من التملق والرياء، وأن تكون بحجم أصحابها المتميزين دون تزيد، وأن يعتز بها الناس ويتداولوها بإعجاب لأنها حقائق ثابتة لأصحابها وما يستحقونه من الثناء والاحترام، وينطبق هذا على كثير من شعري المدح والرثاء (الصادقين الذين يبالغ ناظمهما في ذكر مزايا الممدوحين وفي الإعزاز بمحاسن الموتى مبالغة مستملحة) تحت وطأة المشاعر (الحقيقية) الجياشة المغرقة في الإعجاب بالممدوح أو في الحزن على المفقود من هنا يمكنني القول بأن العديد من صيغ المبالغة المتكلفة والكاذبة المستعملة في كثير من النصوص الأدبية وفي غيرها لا تعدو جميعاً أن تكون (ورماً) غير حميد لا يزيد الأسلوب الأدبي جمالاً بل ربما أزال عنه بعض رونقه.

أود أخيراً أن أروي طرفة مضحكة فحواها أنني تناولت الطعام ذات مرة في إحدى المدن المغربية الكبيرة في مطعم بد لي (من الخارج) أنه مطعم (درجة أولى) علقت فوق بابه يافطة تحمل اسم (مطعم الشراهة)، وقد أدى ما في الاسم من إيحاءات مشجعة إلى أن ازدرد الوجبة بنهم شديد ولم ألبث إلا مدة قصيدة فوجئت بعدها بأني وقعت ضحية (المبالغة) وبأن نهمي صار نقمة علي فقد قادني إلى فراش المرض بالتسمم، وفقدت إثر ذلك شهيتي كاملة للطعام لأسبوعين على الأقل وعشت تحت الإشراف الطبي المباشر والمتواصل أسبوعين آخرين وهذا دليل قاطع لا يقبل الشك على أننا اعتدنا تسمية الأشياء بأسماء لا تطابق حقيقتها إيثاراً للترويج عن طريق (المبالغة) متفاوتة الدرجات التي ستبقى - على ما يبدو - مزاجاً سائداً عند العرب أجمعين في المشرق والمغرب على حد سواء.

* أستاذ سابق في الجامعة

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد