Al Jazirah NewsPaper Thursday  09/09/2010 G Issue 13860
الخميس 30 رمضان 1431   العدد  13860
 

رحيل غازي القصيبي «المتعدد في صيغة المفرد» (2-2)
مكتشف السر الأعظم: لا سبيل لرد الهزيمة أمام إسرائيل من الديموقراطية !
د. عبدالرزاق عيد *

 

إن الراحل المهجوس بالهم النهضوي والتنويري، إذ يحلل الوضع الإيراني إنما يحلل الوضع العربي المشابه في وحدة (التأخر) الذي ينكره ملالي إيران اليوم.... إنه يحذر من مآل الصورة الممائلة في العالم العربي: وهي ظاهرة ترييف العواصم والمدن؟

بدل (مدننة) الريف، وما يمكن أن يترتب على ذلك من سهولة تحريك من لا يملك شيئا للإطاحة بمن يملكون كل شيء»!

يقول القصيبي» إلا أن المزايا التي تمتعت بها طهران كانت، في النهاية سبب مأساتها. نزح الآلاف فالملايين في كل مكان في قرى إيران وأريافها إلى العاصمة بحثا عن العمل والمأوى، إلا أن خيرات العاصمة لم تتسع لهؤلاء الوافدين الذين سرعان ما وجدوا أنفسهم بلا عمل في مساكن بائسة يطالعون بأم أعينهم الثراء الفاحش دون أن يكون لهم فيه أدنى نصيب. ولم يكن أمام هؤلاء من ريفيي العاصمة». من يخفف عنهم عناء الغربة ويواسيهم في وحشتهم وألمهم سوى رجل الدين، يرونه مع ولادة كل طفل، ومع موت كل شيخ، وفي كل زواج، وفي كل طلاق، وقريبا من همومهم اليومية ومعاناتهم المستمرة بقدر ما كانت السلطة الإمبراطورية بعيدة كل البعد عن أمانيهم وتطلعاتهم.

عندما طلب رجال الدين من ريفيي العاصمة أن يتحركوا، مشوا وراءهم - ذلك أنه من السهل تحريك من لا يملك شيئا للإطاحة بمن يملكون كل شيء».

هذا الخطاب لا يمكن أن يصدر عن عقل حكومي عربي رسمي، بل هو خطاب تحليلي سوسيولوجي من موقع مسؤولية الكاتب والمفكر، حيث يصدم أفق انتظار القارئ وفق تعبير أمبرتو إيكو: أن يكون هذا الخطاب النقدي (الراديكالي) صادر عن من احتل مناصب حكومية عليا كالوزارة، لكنه سيزول العجب عندما يعرف أن صاحب هذا الخطاب هو ببساطة غازي القصيبي، إنه خطاب المفكر والفنان، إذ لا يمكن في العالم العربي المتحفي المتخصص في صناعة نموذج المسؤول الشمعي، أن يذهب وزير ليعمل كنادل، ويلبس لبس النادل تحت التصوير لتشجيع شعبه على احترام العمل والتحرر من الإرث القبلي في احتقار العمل... نقول: لا يمكن أن يفعل ذلك إلا فنان ومفكر وأديب وشاعر كالقصيبي المثقف الشجاع والمتقحم....

إن التحولات والانتقالات (من الشعر إلى الرواية إلى الكتابات النظرية) في المسار الإبداعي لفقيدنا، إنما هي انتقالات لا تجبّ الواحدة منها الأخرى، بل تجاورها وتحايثها وتزامنها وتتعدد بها ومعها... ففي أشد لحظات الإنتاج الدرامي والكتابة الفكرية البرهانية، يحضر الشعر متخطرا ليحرر عقلانية النثر من برودتها، باتجاه إنتاج عقلانية تأملية موشاة بدفء المشاعر وطزاجة الانفعال الغنائي الشعري، حيث تتشابك هذه العناصر لتشكل شبكة تناظرية دلالية على مستوى تجربة الراحل مع ممارسته الكتابية عامة، وحيث هذه الشبكة سنلمس صدى صوتها التعددي في بنية النصوص السردية ذاتها المشتقة من جسم الكتابة المتطابقة مع جسم الكلمات مع جسم الأصوات، بل وسنجد نظائرها حتى في بنية الكتابة البحثية والمقالة الصحفية التي تتأسس على بنية تواصلية حوارية تحتكم إلى الأطروحة وهي تتعارض مع الأطروحة المضادة لا لتستحقها وتبيدها، بل لتنتج تركيبا من طراز نوعي جديد لكلتا الأطروحتين...

لحظة الرحيل التي باغتنا فيها القصيبي، حدس بها ليس فقط عندما أوصى بإنتاج الشهادات في كتاب فحسب كما ألمحنا...بل يبدو أنه قد حدس بها قبل خمس سنوات، أي وهو في الخامسة والستين... ليقدم لنا في قصيدة عذبة مفعمة بالشجى الرهيف والأليف خلاصة التجربة الروحية والوجدانية في شعرية تأملية تنتشي بتساؤلاتها المتوترة المشدودة بين وجه المجهول المتدفق نحو اللانهاية، ووجه المصير الذي تصنعه خطواتنا باتجاه مصائرنا الحتمية...حيث تقدم لنا خطرات تأملية شافة عن ضمير الإبداع الذي يتوفر عليه الكاتب الحقيقي الجدير بالكتابة (القصيبية)، وهي حالة جدل التوتر الداخلي للمبدع الخلاق بحق:(الثقة المفرطة بالنفس والقلق القاتل) على حد تعبيره، وهو يصف سيرة معاناته الإبداعية مع الكتابة..

نقول: نعم يبدو أن فقيدنا قد هجس بلحظة الرحيل هذه منذ خمس سنوات:

خمس وستون في أجفان إعصار

أما سئمت ارتحالا أيها الساري

ثم ينتقل ليلوح لنا بأنه حان إبحاره:

ويا بلادا نذرتُ العمر زهرته

لعزها دمتِ إني حان إبحاري

فإذا كانت الكتابة الفكرية تستدعي الأسلوبية السوسيولوجية (الفولتيرية) كما لاحظنا في كتاباته النثرية النظرية، فإن الشعر يمتح من الأعماق، فيستدعي أمثولته في المعلم الأول للشعر (المتنبي) الذي سماه (أبا حسيد) لكثرة حساده، وذلك في نصه المفرد في جنسه الأدبي «العصفورية».

فإذا كانت رحلة المعلم الأول للشعر (المتنبي)، وهو (يركب الريح)، فإن الحفيد (القصيبي)، مثل معلمه الشعري، يقضي رحلة عمره في (أجفان الإعصار)...

وإذاكان المعلم حلم بإمارة فمالأ الأمراء للحصول على مبتغاه وخذلوه، إلا أن الحفيد (القصيبي) حقق حلم الإمارة فشرفها، لكنه لم يمالئ من أجلها:

إن ساءلوكِ فقولي لم أبع قلمي

ولم أدنس بسوق الزيف أفكاري

هنا نقطة الافتراق مع المعلم، إنه افتراق في الانتماء إلى قيم العصر، حيث المثقف في العصر الحديث يفترض أنه مثقف مجتمع، وليس مثقف بلاط كما كانت منظومة القيم في زمن المعلم الأول (المتنبي) ومثقف المجتمع لا يبيع قلمه للسلطة ولا يدنس عقله الحر بنفاق أو رياء...فإذا كان المعلم بطلا في عين ذاته النرجسية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس:

فالليل والخيل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

فإن سليل ميراث إبداع المعلم الأول، يفارق معلمه الشعري في فهم مصفوفة قيم البطولة، إذ إن فقيدنا تشبع بقيم عصره العليا..الذي تتعانق فيه تجربته الثقافية المحلية والكونية..حيث بطولة المثقف الحديث تكمن في رفض عار التنازل عن الحرية:

وإن مضيت فقولي لم يكن بطلا

لكنه لم يقبل جبهة العار

وتتردد في القصيدة صيغة الشطر الأول (لم يكن بطلا ثلاث مرات... ليفرد لنا معاني تحولات مفهوم البطل: من البطولة الأسطورية إلى البطولة الفروسية، إلى بطولة الفرد الحر في الزمن الحديث، وهي بطولة (المواطنة) عبر اضمحلال فذوبان فتلاشي (البطل الفرد المنقذ) مع الحداثة، التي ستصبح الحرية الفردية معها أساس أي حرية اجتماعية، فلا حرية مجتمعية لا تبدأ وتتأسس على أولوية ولاية ذات الفرد على ذاتها بكل أحوالها وأطوارها وهواجسها وانفعالاتها، قوتها وضعفها حكمتها وطفولتها: (أطوار وأطوار)

وإن مضيت فقولي لم يكن بطلا

وكان يمزج أطوارا بأطوار

وإن مضيت فقولي لم يكن بطلا

وكان طفلي ومحبوبي وقيثاري

هذه الترسيمة القيمية لمفهوم الذات الحرة والفرد الحر المالك لنفسه وجسده وإرادته، هي معايير بطولة زمننا الحديث، هي معايير الثقافة الليبرالية التنويرية والنهضوية التي صنعت بطولة تعدد (الجمع في صيغة المفرد أو المفرد بصيغة الجمع) الذي هو المثقف المتعدد القصيبي في صورة:

إن ساءلوك فقولي لم أبع قلمي

ولم أدنس بسوق الزيف أفكاري

وأخيرا هل استطعت أن أعوض عما كتمت من حب للقصيبي في حياته..؟

هل استطعت أن أرثي حجم الخسارة التي منيت بها الثقافة التنويرية والنهضوية العربية برحيل فقيدنا (الجمع في صيغة المفرد)...!!؟

* باريس

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد