طالب بعض الكتّاب، والمختصين بالسماح للمحلات التجارية بمزاولة البيع والشراء في أوقات الصلاة. تحدثوا عن حجم الخسائر الاقتصادية المترتّبة على الإغلاق واعتبروها «مكلفة»، إضافة إلى تعطل الحركة التجارية وما يترتب عليها من منع المُضطرين من الحصول على حاجاتهم أوقات الصلاة، مستشهدين بالصيدليات، ومحطات الوقود.
للوقت قيمة ولا شك، إلاّ أنّ قيمة العبادة أسمى وأعظم من أموال الدنيا، كما أنّ إغلاق المحلات في أوقات الصلاة لا يُعيق الاقتصاد من تحقيق النمو، ولا يحرم التجار من تكديس الأرباح التي يبدو أنّ بعض المستهلكين باتوا أكثر حرصاً على دعمها من التجار أنفسهم، والحديث عن الخسائر «المُكلفة» قد لا يستقيم في مجتمع يؤمن بقول الله عز وجل: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ بل إنّ الإغلاق لأداء الصلاة قد يأتي بالبركة للتجار، المتسوقين، والاقتصاد؛ إضافة إلى ذلك فطرح الموضوع من وجهة نظر (الحريصين) على الاقتصاد يجعله غير مكتمل لاستبعاد وجهة نظر القائمين على تشغيل الأسواق التجارية، ومعظمهم من المسلمين. فهؤلاء الموظفون هم أكثر حرصاً على أداء الصلاة في وقتها مع جماعة المسلمين، ولو عُطِلَ قرار إغلاق المحلات في أوقات الصلاة فمن غير المستبعد أن يُرغم هؤلاء على مواصلة العمل دون توقف، أو دفعهم لتأخير الصلاة أو أدائها منفردين في أفضل الظروف!.
ممارسة الانتقائية في التشديد على أهمية الوقت في الأسواق، وإبراز الخسائر الاقتصادية المترتبة على إغلاق المحال في أوقات الصلاة يُضعف موقف المؤيدين، خاصة وأنّ الإضاعة الحقيقية للوقت لا يمكن أن ترتبط بصلاة أوجبها الله على كل مسلم ومسلمة، وفي وقتها المحدد؛ يقول الله في كتابه العظيم «إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا»، بل هي مرتبطة بغالبية الإدارات الحكومية التي يفترض أن تكون أكثر انضباطية ومعرفة بأهمية الوقت للمراجعين، ومن ضمنها المحاكم الشرعية، والوزارات، وبعض القطاعات الخاصة، بل إنّ الإجازات الحكومية الطويلة هي ما يفقد الاقتصاد الكثير من مزاياه التنافسية، ويتسبب في تعطل الكثير من المصالح. وفي أهم القطاعات الاقتصادية على الإطلاق، القطاع المالي، تفتتح البنوك السعودية أبوابها الساعة التاسعة والنصف صباحاً، في الوقت الذي يبدأ فيه الدوام الرسمي في قطاعات الدولة الساعة السابعة والنصف صباحاً، أي أننا نتحدث عن فارق ساعتين ونصف بين توقيت الدوامين، وضياع ساعات النهار الأكثر أهمية للاقتصاد. أما سوق المال فلا تفتح أبوابها إلا الساعة الحادية عشرة صباحاً، أي قبل صلاة الظهر بساعة تقريباً. قد يقول البعض إن البنوك تستمر في العمل حتى الرابعة والنصف، وسوق الأسهم تعمل حتى الثالثة والنصف مساء، فلا ضياع للوقت في هذه الحالة!. يمكن أن يكون ذلك التبرير مقبولاً من الجانب النظري، أما الواقع فيُثبت عكس ذلك. ففترة الظهيرة تعتبر من الفترات الميتة، والمؤثرة سلباً على الاقتصاد، لأسباب مرتبطة بثقافة المجتمع، عاداته، وأجوائه الحارة أيضا، وهي ساعات مفقودة وإن فتحت البنوك أبوابها. تُرى أيهما أكثر ضرراً على الاقتصاد؛ إضاعة أهم ساعات النهار في القطاع المصرفي، وسوق المال، أم الإغلاق لأداء الصلاة؟.
التركيز على الجانب المادي الدنيوي يجب ألاّ يُنسينا الجانب الإيماني، وتعاليم الدين الحنيف، خاصة واننا نتحدث عن أسواق المملكة العربية السعودية مهبط الوحي، ومهد الرسالة، وقبلة الإسلام والمسلمين، والتي تتخذ من القرآن والسنّة منهاجاً ودستوراً.
يقول الله سبحانه وتعالى: ?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ?. جاء في تفسير ابن كثير: «رَوَى عَمْرو بْن دِينَار الْقَهْرَمَانِيّ عَنْ سَالِم عَنْ عبداللَّه بْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي السُّوق فَأُقِيمَتْ الصَّلَاة فَأَغْلَقُوا حَوَانِيتهمْ وَدَخَلُوا الْمَسْجِد فَقَالَ اِبْن عُمَر فِيهِمْ نَزَلَتْ ?رِجَال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بَيْع عَنْ ذِكْر اللَّه?، أي (لَا تَشْغَلهُمْ الدُّنْيَا وَزُخْرُفهَا وَزِينَتهَا وَمَلَاذّ بَيْعهَا وَرِبْحهَا عَنْ ذِكْر رَبّهمْ الَّذِي هُوَ خَالِقهمْ وَرَازِقهمْ وَاَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي عِنْده هُوَ خَيْر لَهُمْ وَأَنْفَع مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ لِأَنَّ مَا عِنْدهمْ ينْفَد وَمَا عِنْد اللَّه بَاقٍ).
وروي عن الرسول الكريم الله صلى الله عليه وسلم قوله «والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب يحتطب، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء»؛ ربما كان المتخلّفون في بيوتهم أقل خطأً ممن تُلهيه تجارته، ويتسبب في إلهاء الآخرين عن الصلاة، ومع ذلك شدد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على عظم صنيعهم، فأغلظ فيهم القول والتهديد.
الساعات المفقودة وأثرها في الاقتصاد لا يمكن أن تُربط بأوقات الصلاة؛ والرزق لا يمنعه قصر الوقت، ولا يبسطه طوله، فالأرزاق بيد الله، يبحث عنها العباد في الأرض وهي في السماء؛ يقول تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ). بل إن البركة لا تَحِل إلا برضا الله سبحانه وتعالى، والصلاة في أوقاتها مع جماعة المسلمين، مدعاة لرضا الله، وحلول البركة، وسعة الرزق؛ والبركة أعم وأشمل؛ يقول تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) وهو ما لا يراه الرأسماليون في الغرب، ويتجاهله بعض المسلمين المُتشبعة عقولهم بالنظريات الاقتصادية.
إغلاق المحال في أوقات الصلاة لن يتسبب بخسائر اقتصادية كما يعتقد البعض، بل هو مدعاة للبركة، وسعة الرزق، فالخير لا يأتي إلاّ بالخير بإذن الله. يقول تعالى:(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
* * *
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM