رمضان - للأسف الشديد - أصبح شهراً للصيام متزامنا مع شهر المسلسلات، أو لربما هو شهر مسلسلات وخلاله تعوّد الناس على صيام نهاره.. هكذا يمكن أن يُقال عن هذا الشهر، الذي حوّله
الإعلام من شهر عبادة إلى شهر مشاهدة وإعلام وتلفزيون.. لم يصبح هذا الشهر كما كان، حتى أن الأمور تسارعت خلال السنوات الخمس أو العشر الماضية؛ فأصبح مفهوم رمضان مختلفاً عن مفهوم رمضان كما يعيشه آخرون في دول إسلامية أخرى الآن، أو كما كان يعيشه آخرون في المجتمع نفسه فيما مضى..
قوة الإعلام - للذين يشككون في مثل هذه القوة - استطاعت أن تقلب مفاهيم إلى مفاهيم، وتخلق حالة جديدة، وتؤسس لظاهرة نوعية غير مسبوقة.. دخل الإعلام رمضان فغيّر من صورة رمضان، وزرع قيماً جديدة ومظاهر لم تكن موجودة.. دخل إلينا الإعلام عبر بوابة رمضان، واستغل هذا الشهر كل استغلال، وامتص منه رائحته وسلخ جلده، واستبدله بجلد آخر، وبمشاعر جديدة، وبعيون غير تلك التي اعتاد رمضان عليها.. نعم دخل رمضان ولم يتبق من رمضان إلا اسمه وعنوانه وتاريخه، أما رمضان الذي كنا نعرفه، وكنا نقرأ عنه، وكنا نفترضه وفق قواعد وأصول الإسلام الحنيف، فقد خرج من بيننا، وتركنا وراءه دون علمنا، وكنا شعرنا أننا نعيش رمضان، ولكن اكتشفنا مع الأيام والسنين أننا نعيش مع مسلسلات رمضان، ومع برامج رمضان..
اليوم حديث الناس ليس عن رمضان، ولكن عن مسلسلات رمضان، ليس عن شخصيات الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، ولكن عن نجوم المسلسلات، عن طاش ما طاش، وبيني وبينك، وهوامير الصحراء، وذاكرة الجسد، وليلى، وزوارة الخميس وعاوزة أتجوز.. نعم حديث الناس هو عن أبطال هذه المسلسلات من ناحية، ومن ناحية أخرى يتجدد الحديث عن تلك المسلسلات في حلقاتها المتنوعة، وموضوع أو أحداث حلقة الليلة هي موضوع جلسات السمر وسواليف الإنترنت والجوال..
رمضان أصبح ذا مفهوم ترفيهي، وزمناً للضحك والاستئناس.. ومكاناً للعب، ومساحة للخروج من الواقع، ومن الزمن، ومن المكان إلى آفاق جديدة من المفاهيم والقيم والمشاعر والطقوس. رمضان يظل شهراً نصوم فيه، ونقرأ فيه، ولكنه في الوقت نفسه أصبح شهراً نبحث فيه عن برامج ومسلسلات، عن نجوم وشخصيات، عن مواقف وذكريات.. ويعود الفضل في كل ذلك إلى وسائل الإعلام التي غيرت من مفهوم رمضان، وزرعت فيه مفاهيم جديدة وقيم استيطانية من النوع الجديد، وبرمجنا أنفسنا وحياتنا وعلاقاتنا بطريقة تتناسب مع برامج ومواعيد المسلسلات وبدايات البرامج ونهايات الحلقات.. اتصالاتنا تتوقف في أوقات، وتنبعث في أوقات أخرى حسب فواصل البرامج ونهاية الحلقات..
رمضان انقسم إلى قسمين: نهار رمضان، وليل رمضان.. فنهار رمضان قد يظل ذا صبغة روحانية، أما الليل فهو مقطوعة فنية ولوحة تشكيلية ساهم فيها فنانو ومبدعو العرب من خليجهم إلى محيطهم.. وأصبح ليل رمضان موزعاً بين الخيم الرمضانية والشاشات التلفزيونية.. ويندر أن يكون غير ذلك.. لا شك أن ليل رمضان قد انسلخ من رمضان منذ سنوات، وكأنما أعير من رمضان إلى وسائل الإعلام، لتعمل به، أو لنقل لتعبث به كيفما أرادت..
الناس لهم أهواؤهم وتفضيلاتهم في رمضان كما هي العادة في كل وقت من الأوقات.. ولكل مجتمع وشعب عربي ربما يكون له تفضيلات غير تلك التفضيلات المتوافرة لشعب عربي آخر.. وإقليمياً، توجد تفضيلات متقاربة ومتطابقة أحياناً في منطقة الخليج العربي.. كما أن منطقة الشام لها طقوسها وثقافتها الفنية والرمضانية مختلفة عن تلك الموجودة في مناطق أخرى.. كما أن مصر ووادي النيل لها ثقافتها الرمضانية التي تختلف نوعاً ما عن ثقافة مناطق المغرب العربي مثلاً.. ولكن توجد قواسم مشتركة بين كل المناطق؛ فهناك برامج واحدة، ومسلسلات مشتركة، ونجوم معروفون للجميع.. وهذا ما حدا بتبني نظام يلغي الحصرية في معظم البرامج والمسلسلات، فتجد مسلسلاً في أكثر من محطة تلفزيونية عربية وفي أوقات مختلفة..
وفيما يبدو أن الاتجاه قريباً هو إلى شاشة عربية واحدة، لا تختلف إلا في شارات الافتتاح والإغلاق، رغم أن جميع المحطات تقريباً أصبحت تعمل على مدار الساعة.. رمضان في الشاشات العربية أصبح متجانساً، متقارباً، متشابهاً، وأخشى أن يأتي يوم يصبح متطابقاً.. كما أن الموضوعات أصبحت متشابهة تماماً، فما هو معروض في هذا المسلسل هذا العام كان موجوداً في المسلسل نفسه في عام سابق، كما أن المسلسلات الحالية باتت متشابهة تماماً في موضوعاتها ومعالجاتها..
وأخيراً، رمضان لم يعد رمضان، ولم يعد بيننا كما كان، أو كما ينبغي أن يكون.. رمضان تغير، أو ربما نحن تغيرنا.. ولنكن أكثر دقة... الإعلام غيَّر لنا رمضان، وغيَّرنا نحن من أجل رمضان.. الإعلام أصبح هو رمضان.. ورمضان الماضي خرج من الإعلام، ولم يتبق أمامنا إلا رمضان بمظهر جديد أو لنقل كما يحب إخوتنا اللبنانيون رمضان في نيو لوك..
أين رمضان..؟ هذا هو السؤال المهم في معادلة الإعلام ورمضان.
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية / أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود
alkami@ksu.edu.sa