من خلال مقارنة سريعة سنجد أن أكثر وصف دقيق لمتلازمة الفساد هو تفشي السرطان الخبيث في جسد الإنسان، فانتشار الفساد في مجتمع هو إيذان بدخول مراحل جديدة قد تكون قصيرة في فترتها الزمنية، لكنها قد تكون قاسية في تأثيراتها على حياة الناس، فالفساد هو الآفة التي لا تتوقف عن أكل الأخضر واليابس في المجتمع، وقد يصل في أحيان إلى مرحلة لا يمكن علاجها، كما هو حال سرطان الجسد الذي تجاوز موقعه ليصل من خلال الدم إلى الأعضاء البعيدة، عندها قد نقول إن حياة المريض ميؤوس منها، ما لم تتدخل قدرة الله عزَّ وجلَّ في شفائه من الداء الخبيث..
تكمن خطورة سرطان الجسد في كلفته العالية التي تزيد بتسارع انتشاره وبتعدد فروعه في الجسد، وتحتاج تلك الزيادة المطردة إلى زيادة هائلة في استنزاف طاقة وبروتين ودهون الجسد، مما يؤثِّر على بقية أجزاء الجسد، ويكون مآلها الضمور مع مرور الزمن، لتمرض خلاياها، وتتوقف عن الإنتاج ثم تفنى، ليموت الجسد وتخرج الروح إلى غير رجعة، كذلك هو الحال في قضية انتشار الفساد واتساع دائرته وارتفاع تكلفته، مما يقلِّل من احتياجات كثير من الجهات الحيوية في المجتمع، وبالتالي تموت الأطراف ويستمر تآكلها في اتجاه الوسط، وتحدث الكارثة بعد الوصول إلى حالة اللا رجعة وفقدان الأمل..
عادة ما يتم دفع فاتورة الفساد من موازنة كثير من القطاعات الحيوية، ومن الدعم الاجتماعي للغالبية المتأثرة من سيطرة طبقة الفساد، وتكون الصورة أكثر مأساوية عندما ترتفع أرقام الميزانية، ويكون القادرون على تنفيذها محدودين، ولأن المشاركين في اقتسام الموارد المالية قلة، تحدث التجاوزات، ويتفشى نظام الرشوة، وفي النهاية تتعطّل المشاريع نتيجة للتنافس السلبي في الأقلية التي تتصارع على محصلة الإنتاج أو ثروة تنفيذ المشاريع مع أكبر هامش ربحي..
حاول الاقتصادي الإيطالي باريتو في العام 1906 فهم ما يحدث في بلاده، وحاول كشف سر متاعب المجتمع وفقره وقلة إنتاجه، وسبب سوء توزيع الثروة بين فئاته، وتوصل إلى معادلة 20 /80 .. أو إلى أن الـ20%، الذين عادة ما يمثِّلون النخبة في المجتمع، كانوا يستحوذون على 80% من الثروة والإنتاج في بلاده، والنخبة في مجتمعه كانت الأقلية التي تسيطر على أبواب الحركة الاقتصادية في بلاده في ذلك العصر، وهم أيضاً الذين يمثِّلون السلطة بمختلف مشاربها، بينما الغالبية هم بقية (المجتمع) التي تخرج عن دائرة الأهمية، ومن خلال تلك الرؤية خرج باريتو بنظرية تقول بأن 20% من المجتمع تستحوذ على 80% من النتائج، وأن الـ80% المتبقية ليس لديهم إلا 20% من النتائج! وفي دائرة الفساد يمكن تطبيق مبدأ باريتو في كثير من المؤسسات، فالأقلية تستحوذ على 80% من الإنتاج والثروة، بينما تبقى للأكثرية الـ80%، 20% من الثروة والإنتاج..
ترسم تلك الرؤية الذكية للإيطالي باريتو مقاطع شفافة لما حدث في بلاده، التي كانت تحكمها في تلك الفترة الزمنية أنظمه تخلو من وسائل الشفافية والمحاسبة، والتي إذا غابت تكون النتيجة دائماً قاعدة 20 /80، أو استحواذ الأقلية بالنسب الأعلى للإنتاج والثروة، وتكون من نتائجها السلبية فشل المشاريع والبطالة والفقر والإحباط بين الأغلبية..، وبالمختصر المفيد قد لا تستطيع النخبة رؤية تلك المعادلة المنحازة جداً، وقد تحث الأزمات بدون وعي لما يحدث، وقد تزداد الحالة سوءاً تباعاً ما لم يخرج حكماء من أمثال باريتو لديهم الجرأة على إطلاق جرس الإنذار في تلك المجتمعات، وذلك لتحذير النخبة من تداعيات سوء توزيع الثروة..