تمر الأيام والليالي ثقيلة متباطئة محملة بالهموم والأكدار حزنا وألما لفقد ورحيل رجل من أبرز الرجال وبطل من أمضى الأبطال وسوف تمر دهور طويلة وذكرى غازي (رحمه الله) ومآثره وما نسج يراعه وفكره ماثلاً وشامخاً كشموخه وإبائه.. إنه نموذج فريد في جيله الحاضر وربما في أجيال سبقته، كان فكراً نيراً وبلاغة متعاظمة وفصاحة فائقة ومواهب قيادية وإدارية فذة. ها أنت مضيت بعد أن وفيت، كنت عملاقاً أشم وأنت في قلب النشاط الأكاديمي في ..
.. كلية الإدارة والاقتصاد وكنت بطلاً وأن تشيد حصوناً للصناعة في شرق المملكة وقلاعاً في غربها وتبني محطات لتوليد الطاقة وتقيم شبكات واسعة لنقلها وتوزيعها في مختلف الأقاليم، كنت شجاعاً في مواجهة الواقع الصعب وأنت تعيد ترتيب أوضاع مرافق الخدمات الطبية حيث تفجرت هناك في وزارة الصحة مواهبك الإدارية الفذة حيث أقدمت بحزم وعزم على إعادة تنظيم هذا القطاع وتمكنت من إدخال تعديلات أساسية وجوهرية في جميع مراكز القيادة في هذا القطاع حققت من خلالها نمطاً غير مألوف في الأجهزة الحكومية وهو تفتيت وإضعاف المركزية في تنفيذ الصلاحيات وأقمت جهازاً مركزياً للمراقبة والمتابعة، ومن دون جدل فإن إصلاح قطاع الخدمات الصحية كان المحك والفاصل الذي أكسب غازي (رحمه الله) محبة الناس ونال على إثره مودتهم وتقديرهم في جميع مناطق المملكة وقراها، ومن خلال هذه المحاولة الجريئة أثبت غازي أنه عندما تتوفر الرغبة والإرادة معاً فإنه ما من شيء يستعصي على الحل.
ها أنت مضيت بعد أن وفيت، كنت بطلاً عندما تصدى يراعك الشجاع مندداً بغزو واحتلال الكويت واكتسب عمودك اليومي «في عين العاصفة» موقعاً متميزاً في معركة الصمود والمواجهة، كما كنت بطلاً في هجومك المتواصل ضد المواقف الرافضة للاستعانة بالقوات الدولية لإجلاء المحتل حيث يعد كراس «حتى لا تكون فتنة» أحد أهم الوثائق في دحض حججهم الباطلة، كما كنت شجاعاً وعملاقاً في رفض وإدانة مواقف بعض القيادات الفلسطينية من معركة تحرير الكويت.
وفي سعيك نحو احتلال مركز قيادة اليونسكو كنت شجاعاً مع أنك تعلم وتدرك بأن ترتيبات اختيار كبار المسؤولين في المنظمات الدولية لا تخضع للاحتبارات المهنية أو المقاييس التأهيلية.
وفي ختام سيرتك الرسمية كنت بطلاً وشجاعاً في قبولك (وربما أقول في سعيك) لمنصب وزير العمل - إدراكاً منك بأن توطين الوظائف وإتاحة الفرص للمواطن السعودي تمثل التحدي الحقيقي للإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في هذا الوطن وأن تجاهل هذه الحقيقة أو التغاضي عنها - كما صرحت رحمك الله في مناسبات عديدة - سوف يؤدي مع الزمن إلى تفاقم البطالة وإلى ما ينشأ عنها من آثار ضارة، ولعل أكثر ما كان يخشاه غازي (رحمه الله) وهو محق في ذلك هو أن تتحول قوافل العاطلين عن العمل تحت تأثير الحاجة والفقر إلى طابور خامس (لصوص، إرهابيين، قطاع طرق). كنت صريحاً وشجاعاً في هذا الشأن وقد نجحت في تحويل مبدأ توطين الوظائف وإشغالها بسعوديين من شعار إلى منهج وإستراتيجية ثابتة أقرتها الحكومة تتمثل في قواعد صارمة لإجراءات استقدام وتوظيف العمالة الوافدة، وكان الله في عون خلفك في وزارة العمل في أن يواصل السير على هذا النهج وهي مهمة عسيرة وشاقة تتطلب صبراً وإصراراً وعزماً لا يلين.
ومع مشاغله الكثيرة في قضايا الشأن العام فإن ذلك لم يصرفه عن إطلاق مواهبه وإرهاصات فكره ومشاعره وعواطفه وهواجسه المتأصلة في الشأن الأدبي والثقافي والاجتماعي حيث أثرى - رحمه الله - على مدى أربعين عاماً أو تزيد قليلاً الساحة الثقافية بعطاء ثمين ونادر. ولعل ولعه الشديد بالقراءة والمطالعة ونظم الشعر منذ حداثة عمره كان عاملاً أساسياً في تدفق وغزارة هذا العطاء حيث يصنف نتاجه الأدبي والثقافي في الشعر والرواية ضمن الأبرز والأرقى مع أقرانه الذين كانت الكتابة مهنتهم الأساسية.
أمر مثير للدهشة والإعجاب والإكبار أن هذا الإنسان الخلاق المبدع (رغم أعبائه الإدارية الرسمية الجسيمة) تمكن بدرجة فائقة من المزاوجة بين المسؤولية الرسمية والمسؤولية الاجتماعية بين السياسة والثقافة بين الخيال والحقيقة. وأن يحافظ على هذا النهج طيلة عمره وفي جميع مراحل حياته ومراكزه الوظيفية.
ها أنت أيها البطل ترحل عنا بجسدك بعد إنجازات وعطاءات نادرة قدمت الكثير الكثير لوطنك وأمتك. كنت نظيف اليد وعف اللسان. رحمك الله يا غازي فقد كنت فريداً في زمانك وصادقاً في مودتك أجهدت جسمك وفكرك فنم قرير العين.
والسلام عليك وعلى أصحابك وإخوانك..