ذات يوم.. كان د. الشاعر غازي القصيبي.. رحمه الله يغزو القلوب والعيون والأفئدة حياة.. وقلما وشعرا.. وهو حي..
|
واليوم يزيد غزوه لتلك الجوارح أدبا وعملا وحضورا.. وإبداعا.. وهو راحل..
|
تصعب الكتابة عنه وله في هذه اللحظة.. فتأتي الحروف والأفكار متشابكة متداخلة.. مرتبكة.. ملتبسة.. لا تنفلت من الحزن، ولا يفارقها الأسى..
|
تتموج تلك اللحظات الخاطفة التي احتضننا فيها الأديب الناشر الكبير الدكتور الوزير الإنسان الرائع الغازي.. غازي القصيبي رحمه الله، ونحن ندخل إلى مكتبه في الوزارة بالرياض لزيارته مع رئيس وبعض أعضاء مجلس إدارة نادي الأحساء الأدبي لدعوته لإقامة أمسية شعرية في النادي، وأسعد بإلقاء قصيدة أمامه..
|
تتموج تلك الصورة أمام عينيِّ رغم مضي بضعة أشهر عليها وهي تعكس أخلاق هذا الرمز الوطني وإنسانيته وعاطفته ووفائه وجمال روحه.
|
ومن مفارقات الصدف أن يرحل د. غازي القصيبي، وأنا أقرأ عنه في كتاب (الاستثناء) الذي أصدرته جريدة الجزيرة، والذي احتفى به قائلاً: (فليوزعوا نوبل على من شاؤوا، لقد ظفرت أنا بنوبلي...!).
|
وكنت أراه ماثلا بين عينيِّ بين صفحات الكتاب.. ولا أدري كيف ستكون صورته في الأيام المقبلة حين أواصل قراءة (الاستثناء)، هل أتخيله مسجى، يرحل عن الدنيا، أم منتصبا يشعل الحضور صوتا وإبداعاً..؟
|
أما الدكتور غازي.. رجل الدولة.. والوطن.. فأجدني قاصرا عن الكتابة عنه في هذا الجانب.. لأن هناك من هو أفضل مني في الكتابة عنه في ذلك، وإعطائه حقه..
|
لكني وددت الإشارة إلى أن هذا الرجل وقف نفسه -كما يعلم مناوؤه قبل مريديه- على الإبداع والكتابة حتى آخر لحظة من حياته.. بل وهو حتى على سرير مرضه.. فلقد قرأنا في صحيفة الجزيرة في وفاته أنه صدر له إصدار كتابه الثالث في (عام مرضه) وهو قصة عنوانها (الزهايمر)، بخط يده.
|
آه.. تتجيش المشاعر في داخلي لحظة وصول خبر رحيله، فلا أستطيع مواصلة الكتابة، وها هي دموعي تتناثر على الورق.
|
أما القصيدة التي ذكرتها آنفا، والتي ألقيتها أمامه في مكتبه بالرياض هنا.. فأود أن أرصد صورتين عظيمتين في ذلك اللقاء.. لهما دلالات عديدة وعميقة قبل أن أعرضها.
|
الأولى.. تكشف من بين دلالاتها الكثيرة.. تواضعه، ورقته وحنينه، وهي أنه حينما جاء دورنا للدخول عليه في مكتبه الرحب الكبير.. فز سريعا إلى باب غرفة المكتب، وبين الباب وطاولة معاليه يرحمه الله مسافة ليست بالقليلة.. ففتح الباب بنفسه وقال: (أهلا بأهلي وكررها مرارا.. أهلا بريحة الحبايب.. أهلا بالحسا الطيبة كلها..).
|
الثانية: تعكس من بين جوانبها المتعددة.. تواضعه أيضاً، وخفة روحه، وظرافته وطرافته، وهي أنه بعد أن قرأ الشاعر الأستاذ جاسم الصحيح قصيدته الترحيبية فيه، جاء دوري لإلقاء القصيدة التي سأقرؤها، وبعد الانتهاء منها.. وقف وسلم عينا.. أنا وجاسم مصافحا.. وشاكرا لنا على القصيدتين.. وهو كما يعلم الجميع طويل القامة فوقف بيننا، وقال لو أنني خليفة من الخلفاء.. لملأت فاهكما جوهرا ودرا.. على هذه الجواهر والدرر.. لكنني شاعر مثلكما.. وسأكافئكما شعرا إن شاء الله.
|
أي أنه أراد أن يحيينا ونحن وقوف..
|
|
وفي الحقيقة أنه يكفينا هذا الرد الشفوي منه رحمه الله.. لأنه كان قد وعدنا بذلك حينما يزور النادي.. ولكن قضاء الله عاجله.. مرضا ورحيلا..
|
أما القصيدة التي ألقيتها أمامه تحية ومودة فقد عنونتها ب (معزوفة الشوق).
|
إلى معالي وزير العمل الشاعر الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي..
|
بمناسبة زيارة رئيس وأعضاء نادي الأحساء الأدبي لمعاليه في مكتبه بالرياض..
|
من كوكب الطيب جئنا من ربى هجر |
من موطن الحب، والأشعار، والقمر |
ومن قلوب.. بياض الشمس يسكنها |
وليس من طبعها كبر.. على البشر |
يحكي عراقتها التاريخ منتشيا |
ويشهد الرمل، كما في الرمل من أثر |
لبت لخالقها سلما، وما احتريت |
إلا لتدفع عنها سورة الخطر |
تواءم الناس فيها، واستقر بها |
طود المحبة في الأفعال، والصور |
جئنا، وقافية الإبداع ينقشها |
على النخيل، وفوق الماء والثمر |
حرف.. تعود أن يشدو بأغنية |
مدادها الشوق.. معزوفا على وتر |
(أبا سهيل)، و (أحساء).. ولدت بها |
وكنتها، فتوارى الليل في السحر |
إليك مدت يد الميلاد وله |
للطين، للماء، للحارات، للمطر |
جئنا وشعرك في الآفاق يسبقنا |
وقد مضى مثلا في الحل والسفر |
فنحن منذ عقود والحداء لنا:
|
ضرب من العشق لا درب من الحجر!
|
هذا الشطر الأول لمطلع قصيدة الدكتور غازي القصيبي في جسر الملك فهد الذي يربط السعودية بالبحرين والذي تم افتتاحه في يوم الأربعاء 25-3-1407هـ الموافق 26-11-1986م. ومطلع القصيدة هو:
|
ضرب من العشق، لا درب من الحجر |
هذا الذي طار بالواحات للجزر.. |
(*) عضو مجلس إدارة نادي الأحساء الأدبي- والمسؤول الإداري بالنادي |
|