ما أجمل الإسلام نظاماً متكاملاً متسامحاً معتدلاً. ما أجمل الإسلام نظام عدل وسماحة وسلم. ما أجمل سماحته وعدالته التي تحلى بها أوائل المسلمين ويتحلى بها كثير في الوقت الحاضر والتي أدخلت ملايين الناس فيه في الشرق والغرب ليس بجبروت ولا بتسلط ولا بقوة.
لقد ذكرتُ في مقالة سابقة أن إندونيسيا أكبر دولة إسلامية دخل أهلها الإسلام بحسن المعاملة من التجار العرب الذين حطوا على شواطئها، لم يشهروا سيفاً ولم يحذفوا رمحاً، ولم يقذفوا حربة، وإنما قذفوا الحب والطمأنينة وحسن المعاملة فدخل الناس في دين الله أفواجاً. ما أحوجنا اليوم لدين الإسلام بسماحته ولنوعية تعامل تجار العرب الذين وصلوا إلى إندونيسيا وأدغال إفريقيا في بدايات الإسلام.
في اليوم الأول من رمضان، وبعد أن فككت الريق الذي كان جافاً طوال نهار رمضان بحكم مشروعية صوم هذا الشهر الكريم، وبعد أن صليتُ المغرب منفرداً مقتنعاً بخمس وعشرين درجة لأسباب مفروضة بحكم تموقعي السكني، وبعد أن أزلت قليلاً من شمع أذني وأبقيت قليلاً منه لضرورته الصحية، وبعد أن أزلت ما علق بعويناتي على قول أهل لبنان (النظارة) تهيئة لما سأشاهد على قنوات التلفزيون، أخذت موقعاً مميزاً أمام التلفزيون وأمسكت بمقود محرك القنوات استعداداً للتنقل بينها. بطبيعة الحال أهدافي واضحة وجلية كغيري من غالبية المشاهدين، هدف ثقافي وهدف ترويحي وهدف بين هذا وذاك. قد يكون الهدف التثقيفي محدوداً يضيع في وسط زحام المبالغات والمعالجات الكوميدية والدرامية، ولكن لا يخلو الأمر من فائدة ثقافية ولو محدودة. أما الهدف الترويحي فيمكن التمتع بمحصلة جيدة.
طشتُ مع من طاش في مشاهدة طاش ما طاش، وقد يكون الأفضل طاش من طاش. لكنني لم أذهب بعيداً في ذلك الطيش المحمود - حيث ينتهي الأمر بنهاية كل حلقة لننتظر الطيش المحمود أيضاً مع حلقة أخرى- واستقر بي الحال بمشاهدة حلقة من حلقات بيني وبينك. وبيني وبينكم شدتني تلك الحلقة الأولى واستفزتني وأعجبتني. عندما قال طفل الشمراني لا أدري وكاد والده أن يجن، بل ظننت أنه جن، بل اتهم بالجنون والمرض النفسي واقتيد لعيادة الطبيب النفسي الذي أصابته نفس الهستيريا والفرح بما ردده الطفل بأنه عندما سئل عن أمر ما قال إنه لا يدري.
اقتضت مهنة الإخراج والصياغة الكوميدية أن يكون العرض فيه نوعاً من المبالغة، ولكن ليست مبالغة ممقوتة. عكست الحلقة جزئية من واقع اجتماعي ثقافي سادت فيه خلال العقدين الماضيين صفة اسمها التدين وصور من انعكاساتها. أصبحت صفة التدين تطلق على الأشخاص ممن لهم صفات ومواصفات معينة شكلية في نسبة كبيرة منها، وفي نسبة كبيرة أخرى منها معرفية بأمور دينية أكثر من كثيرين ممن يعيشون بينهم كأسرة أو أصدقاء. أضحت الصفة تستخدم ويستفاد منها في أمور عدة. عندما يخطب إنسان صبية ولديه تلك المواصفات يتبرع الأقرباء والأصدقاء بنصح الأب بالموافقة وأحياناً بدون تردد، ويقال له هذا رجل متدين سيتعامل مع ابنتك بما يرضي الله. وعندما يخطب ممن له تلك الصفات زوجة ثانية تتم في الغالب الموافقة ويقال إن هذا رجل متدين وأنه سيعدل وربما يسري على ثانية وثالثة، اللهم لا حسد. وعندما يوصف مدرس في مدرسة له تلك المواصفات يقال لا تخف على ابنك في تلك المدرسة فهناك مجموعة من المتدينين بها يخافون الله. وعندما تبيع وتشتري مع أناس لهم تلك الصفات يقال لك أحياناً اشتر وأنت مغمض، ذاك رجل متدين لا يجد الغش طريقاً إليه. والبعض يقول ويحكم من خلال المظهر وهنا يكمن الخطر. ونحن نعيش بين فترة وأخرى نوعاً من المساهمات ذات الأرباح السريعة في البداية وقضم الأرباح ورأس الأموال في النهاية وأبطالها في غالبيتهم ممن تنكبوا تلك الصفات. إن كل تلك الممارسات والتلبس بتلك الصفات تأتي من نسبة لا يُستهان بها في المجتمع وبدعم من العامة ومحدودي الثقافة لتلك الصفات مما سهل لمثل أولئك استسهال الفتوى في صغار الأمور وكبيرها، ليست بالضرورة فتوى عامة منشورة في وسائل الإعلام أو الإنترنت، وإنما في المنازل بين الأسر وهو الأخطر لأنها تترسخ كثقافة. وتكاد لا تخلو أسرة ممن يوصفون بالمتدينين. من منا لم يقل له ابنه ذو السبع سنوات أو ابنته أو قريب له في ذلك السن أو أكبر قليلاً في أمر ما: حرام يا أبي حرام يا أمي لا تفعلين كذا وكذا!؟ كنتُ في يوم من الأيام أتجول في فناء مسكني بالرياض وبمعيتي ابن قريب لي وعمره ثماني سنوات وإذا بقطة لديها أطفالها الصغار الأربعة مستلقين حولها. استشطتُ غضباً من وجودها لأنه سبق وأن قمت بطردها ومطاردتها مراراً وتكراراً، وهددتها وتوعدتها وحملت عصاً لتخويفها. صاح الطفل: حرام حرام! حاولت أن أقنعه بأنني سآخذ أولادها وأضعهم خارج الفناء بهدوء وأضع لها غذاءً، وبأن صناديق النفايات ببقايا الطعام منا ومن الجيران الذي -للأسف- يرمى ربما أكثر من النصف ويؤكل النصف.. حاولت أقنعه أنها ليست نظيفة، حاولت أن أخبره بكل العيوب وبأنها خطر عليه وعلى أخوته الصغار، ولم تفلح جهودي على الإطلاق، ولم يكن على لسانه إلا أنه حرام، وكان أخوه الصغير ذو الخمس سنوات يسمع فردد ما يقوله أخوه. أسقط في يدي ولم أستطع أن أفعل شيئاً. بالتأكيد لم يكن الأمر يخلو من رغبة الصغار في التسلية بمنظر القطط وربما مداعبتها، ولكن الاعتراض كان بلفظ التحريم. وأثناء التجوال كان فيه نمل متجمع وطلبت مبيداً للتخلص منها، فقال: يا جدي هذا حرام. قلت له كل عيوب النمل مع قليل من محاسنه. قلت له أنه يلسع، قلت له أنه ينخر الخشب، قلت له أنه يحفر بيته تحت البلاط، قلت وقلت ولكن لم يجد نفعاً. قررتُ الدخول للبيت ورغبت في مشاهدة بعض البرامج التلفزيونية ولكن داخل البيت لدى والديه تلفزيون مشفر لا يشاهد إلا برامج معينة. وفي حال رغبة الوالدين مشاهدة برامج أخرى لا بد أن تفك الشفرة. طلبتُ فك الشفرة وبدأت بمشاهدة الأخبار على إحدى القنوات وكانت تقرأ الأخبار فتاة لا تخلو من مسحة جمال فقفز الطفل إلى محرك القنوات وهو يصيح: حرام حرام. وقال بالحرف الواحد: ما تستحي تشوف البنت. لا أخفيكم أنني شعرتُ بنوع من الخجل والتلعثم في بداية الأمر في الرد ولكنني استعددت رباطة الجأش، وبدأت في تغيير الموضع ومناقشته بطريقة أوضح له بأن هذه صورة ليست حقيقية وأنها لا تتكلم معنا. فقال صورة البنت حرام. فما كان مني إلا أن تجاهلت الحديث وتغيير الموضوع جملة وتفصيلاً. إن هذه الانطباعات بالتأكيد لم تولد معه وليست من مخيلته وإنما مما سمع من أمه أو أبيه أو كليهما أو من أحد أفراد العائلة في بعض الجوانب، وسيسحب مثل ذلك على كثير من الأمور. ولا شك أن أمه وأبيه ليست هذه ثقافتهما الأساسية، ولكن بقدرة قادر تموقعت الثقافة الرائجة في المجتمع هذه الأيام في ذهنيهما فبدأت تؤتي أكلها على نسلهما.
يمكن أن يوصف المرء بالتقى والورع والصلاح وغيرها من الصفات. كلنا مسلمون، منا المقصر ومنا الأكثر تقصيراً، ومنا الأقل تقصيراً تجاه الفروض الدينية المختلفة، ومنا الصالح والطالح ولكن لا يوجد بيننا كامل، فالكمال لله وحده. وفي اعتقادي أنه من الأفضل أن يكون الوصف -مسلمون ومؤمنون وليس متدينون. كلنا كأبناء وطن بالمملكة ندين بدين الإسلام، ولكن كيف أصبحنا نعمل بعكس القول المأثور (من قال لا أدري فقد أفتى)؟ لماذا استُسهل القول بالحرام والحلال؟ لماذا تُستسهل الإجابة بالخطأ من موظف وهو لا يدري ومن أستاذ جامعة وهو لا يدري ومن مدرس وهو لا يدري ومن كثير ممن لا يدري ويدري بأنه لا يدري، ورغم ذلك فهو يفري بما لا يدري؟ لماذا يعسر ما يسره الله في الدين؟ لماذا نوسع باب سد الذرائع إلى حد نصل معه إلى صعوبة سد النوافذ ناهيك عن عدم القدرة على سد الأبواب؟ لماذا شاع بيننا تصنيف بعضنا بعضاً في المجتمع بعلمانيين وحداثيين ومتدينين ومتطرفين وإرهابيين ومغالين؟ لماذا نخاف الإسلام في أبسط تعاليمه وهو أن الدين المعاملة؟ وهناك من الأسئلة الكثير والكثير. أعود وأقول إنه ليس كلُّ من قصر ثوبه وقصَّ شاربه وعفى لحيته تقياً ورعاً صالحاً، وليس كلُّ من حلق لحيته وشاربه أو أبقى شاربه وأسبل ثيابه عكس تلك الصفات.