لازلت أتذكر تفاصيل أول لقاء عقده معالي الوزير غازي القصيبي- رحمه الله- برجال الأعمال بعد بيانه الشهير الذي أصدره إثر تعيينه وزيراً للعمل بعزمه خفض نسبة تأشيرات استقدام العمالة الوافدة ، عندما قال: (لابد من تقديم تنازلات مؤلمة). فقد أثار البيان فزع رجال الأعمال الذين سارعوا إلى طلب لقاء عاجل بالوزير في مقر الغرفة التجارية بالرياض لتوضيح بيانه.
لقد كنت حاضراً الحدث.. يومها تقدم متحدثون يمثلون مجموعات رجال الأعمال من الصناعيين، والاستقدام، وتجار التجزئة، والمستثمرين، وشنوا هجوماً على بيان الوزير، وبعضهم أشبع الشباب السعوديين ذماً وتجريحاً وأنهم غير صالحين للعمل، والبعض هدد بنقل استثماراته خارج المملكة. ودهش الحضور غير مصدقين ما سمعوه وكأنهم يعيشون عصر الرأسمالية المتوحشة قبل أن تهذبها القوانين الصارمة. والسبب في ذلك يعود إلى النزعة الفردية التي تجذرت لدى بعض فئات المجتمع السعودي بسبب وفرة الموارد المالية خلال العقود الماضية وضعف التشريعات والرقابة ونقص الكوادر الوطنية.
بعد الانتهاء من إلقاء البيانات أجاب معالي الوزير أن من تقللون من إمكانياتهم وعدم صلاحيتهم للعمل هم أولادكم. ومن يرغب في نقل استثماراته للخارج سوف يواجه سعودة من نوع آخر. وختم حديثه بلغة الواثق من نفسه قائلاً: (إن البطالة في المملكة سوف تنتهي خلال بضع سنوات).
لقد نجح القصيبي في انتشال وزارة العمل من الانطواء خلف المباني القديمة في مدينة الرياض ونقلها إلى واجهة الاهتمام الإعلامي والشعبي. ووضعها في قلب الجدل بين مؤيد ومعارض لها. لكنه لم ينجح في تنفيذ جميع قراراته، أو الوفاء بالوعود التي قطعها للقضاء على البطالة. وواجهته عقبات جعلته يتراجع عن بعض قراراته خلافاً لنهجه في الإدارة، ليدرك حقيقة أن المهمة ليست سهلة مما جعله يصرح في إحدى المناسبات، بأسى، أنه: (ابتلي بهذه الوزارة وابتليت به).
إن المشكلة تبدو في أسلوب معالجة تدفق العمالة الوافدة إلى المملكة التي تركزت على التضييق في منح التأشيرات دون تمييز بين الأعمال التي يمكن شغلها بمواطنين وتلك التي يصعب توفر من يشغلها من المواطنين في الوقت الحالي.
فأي محاولات للحد من البطالة يجب أن تتركز على حصر الوظائف والأعمال التي يمكن شغلها بمواطنين بسهولة، وفرض غرامات مالية عالية على من يرغب شغلها بوافدين أجانب، مع توفير حد أدنى للرواتب تتناسب مع الوضع الاقتصادي للمملكة وتوفير التأمينات الصحية والاجتماعية التي تفرض بقوة القانون مثلما هو مطبق في كل الدول.
ونتمنى أن ينتهج وزير العمل الجديد سياسات بعيدة عن التنظير والإستراتيجيات والمصادمات. وأن يركز على الجانب العملي المدعوم بقرارات حازمة، مستفيد من توظيف القانون والتقنية للتحكم في فرص العمل المتاحة للمواطنين. ويجب أن تعرف الوزارة متى يجب أن تكون وظائف معينة حصراً على السعوديين. ومتي يجب أن تكون متاحة للمنافسة لخلق التوازن بين المصالح المتعارضة للمواطنين ولرجال الأعمال. نرجو من الله أن يشمل غازي القصيبي برحمته، وأن لا يحرمنا من أمثاله.