لم يكن د/ غازي القصيبي الراحل الوحيد في ذلك اليوم، ولن يكون الأخير طالما تتردد الأنفاس في الصدور، بيد أن رحيله كان موجعاً ومؤلماً وقاسياً. ولكنه القدر الذي كتبه الله على الإنسان، فقد سبقه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ونحن سائرون نحو حوض المنية تدفعنا الأيام وتسوقنا الأقدار. ويبقى الإيمان سياجا عن الوقوع في الزلل الذي قال عنه القصيبي:
|
كلما ضلّل المصابُ نهانا |
ردنا من مصابنا الإيمان |
وغداً إن شاء الله أبا يارا سنلتقي بك على سرر متقابلين، فما علمنا منك إلا نزاهة الذمة ونظافة اليد وطهارة اللسان ونقاء السريرة. ونرجو أن تكون هذه القيم والأخلاق التي حملتها شفيعا لك عند ربك لتنال مكان الصديقين.
|
إن بلدا ساهمت بأمانة في نمائه مخلصا في بنائه، ومجتمعا عشت فيه محبا لك؛ سيظل ذاكرا جهودك مشيدا بكل ما قمت به. تشهد لك شركة سابك على أكبر إنجاز نهضت به، ويضيء باسمك كل مصباح أوقدته في قرية نائية، وكل مستشفى قاومت حتى قامت أركانه وقتلتَ أطماع بعض نفوس عامليه حين قلمت أظافر رشوة كانت تخمش وجوه المرضى فلهجت ألسنتهم بالدعاء لك، وهلعت قلوب بعض الموظفين والمسؤولين من حضورك المتخفي بلا كاميرات وبلا مرافقين! هكذا.. غازي القصيبي يتفقد قطاعات وزارته، فاستقامت الأمور؛ إما تحدوها الأمانة والإخلاص أو يحدها الحزم والقرارات، وليتها استمرت. ومثلتنا في سفارات بلدنا فكنت الدبلوماسي الأريب، وأسست جمعية رعاية المعوقين ودعمتها ماديا ومعنويا فكانت أنجح جمعية إدارة وإنسانية. ثم كانت لك جولات في وزارة المياه حين أعلنت بصدق وشجاعة أن مقولة جزيرة العرب تسبح فوق بحيرة مياه هي ضرب من الخيال ولابد من الحزم وتقليل تدفق المياه بغير حساب! وليتك انتظرت حتى تكتمل منظومة الترشيد ومنهجية الوعي.
|
أما الجبهة الأكبر فكانت وزارة العمل تلك الوزارة المثقلة بالأعباء، المترهلة بالمحسوبيات والحيل. فكنت شجاعا وصاحب قرار حين أوقفت تدفق سيل التأشيرات وربطتها بالحاجة والقدرة المادية وحينئذ بدأت معركة التحايل عبر المؤسسات الوهمية فقلتَ كلمة صادقة (إنني لا أستطيع أن أوقف شرطيا في ضمير كل مواطن) وهكذا كنت مناضلا وشجاعا أمام كل قرار مع مهادنة المعارضين الذين يحاربون الأشخاص ولا يناقشون الأفكار، ويغلقون أسماعهم عن أصوات جلجلة عجلات الحضارة. فأوغروا صدور الشباب على تحديه بإيجاد وظائف لهم، وبرغم أنها ليست مهمته إلا أنه كان عرّاب صندوق الموارد البشرية عندما حاول ثني التجار عن الاستقدام وتوظيف الشباب السعودي. وحين تحجج التجار بالكفاءة والخبرة والمهارة قام باشتراط استقدام أي أجنبي بربطه بالمساهمة في دفع نصف راتب مواطن شاب، وجاهد لتوطين الوظائف وسعودتها، ولكن الشباب خيبوا جهوده حين اشترطوا وظائف بمواصفاتهم وخذله التعليم بعدم توافق مخرجاته مع سوق العمل.
|
ولو لم يكن الدكتور القصيبي شاعرا وكاتبا لكان موته كمدا من الخذلان وخيبة الأمل. ورغم ذلك فقد توفي وهو يأمل بوطن حضاري يتقلد المجد ويسمو بالوعي ويقيم شريعته عقيدة وسلوكا، فحين تجلجل مآذنه بالأذان يسمعها المزارع الصيني والبحار الفلبيني والكهربائي الهندي فتهفو نفوسهم بالعمل فيها فلا يستطيعون لأن فيها شبابا مزارعين محترفين وبحارة مهرة وكهربائيين وسباكين ومهندسين وأطباء بارعين.
|
والآن وأنت تغادرنا لرب هو أكرم وأرحم بك منا؛ لا نملك إلا التسليم، برغم أنني أذوب حزنا وأتفطر ألما على فراقك أيها الرجل المخلص الأمين. وأردد بيت شعرك:
|
تبارك الله، نجري كلنا زمرا |
نحو المنون، ولا يبقى سوى الصمد |
وسوف يهل علينا عيد كئيب بدونك يا غازي غير كل الأعياد، بعد أن غادرت ظهر الأرض ولم تغادر النفوس، ولن تغادرها قط! فرسائلك النبيلة بخط يدك لم تبرح حقيبتي، وكتبك مع ملاحظاتك وإشاراتك وثنيك بعض أوراقها للتدليل على فكرة أو شرح مدلولاتها لازالت كما هي، ولا زلت أنت غازي القصيبي الاستثناء سابق عصره، ملء العين والفؤاد، يقاسمك فيه وطن حبه بحجم فقدك، وبعض أشخاص يشاركونك النزاهة ويشاطرونني الحزن، ولا يكادون يخففون لوعتي وغصتي وألمي وانفطار قلبي وكسرة نفسي. فشكرا لكل من عزاني فيك وواساني بفقدك.
|
وعظم الله أجرنا وأجر عائلته وأحسن الله عزاءك يا وطني بفقيدك وفقيد السياسة والأدب و.. الإنسانية والنزاهة!!
|
وإنْ مضيتُ، فقولي:لم يكنْ بَطَلا |
لكنه لم يقبّل جبهةَ العارِ |
www.rogaia.net |
|
|