في كل رمضان أختار عددا من الأحاديث النبوية الشريفة أستذكرها وأتوسع في استيعاب مقاصدها وحيثياتها وبواعثها وأجتهد في استخلاص عبرتها ومعانيها ومكنوناتها من الدلالات والقيم السامية، ومن الأحاديث التي اخترتها لدرس هذا الرمضان، قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه» تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة»، لي عند هذا الحديث وقفات، فمنه يتعلم المسلم قمة التحضر والرقي في السلوك الاجتماعي، هذا الحديث يعبر عن درجة عالية من الحساسية للمجاملة والتعامل الاجتماعي، ويفوق كل برتكولات الأرستقراطيين والمتمدنين في كل العصور، بل إنه يعبر عن حس مرهف ورعاية عظيمة للمشاعر الإنسانية في زمن كان مجرد إلقاء التحية بين الناس هو قمة حضارتهم، وأنا أتدبر هذا الحديث العظيم، ارتحلت بي الذاكرة لأيام الصبا عندما كنت ألعب الكرة مع الأقران من أبناء حارتنا، وكنا نضع أحجار في الشارع كعلامات للمرمى، وكان جارنا (إبراهيم الغصن)، عندما يخرج للصلاة يجتهد في إزالتها من الطريق بعد أن نكون نسيناها، وكنا عندما نراه يفعل ذلك نسارع في المساعدة فيقول لنا «صدقتكم أن تكفو أذاكم». رحمه الله رحمة واسعة فقد كان خير الجار.
الأذى في هذه الأيام ماثل أمامنا في كل لحظة، فهو في الطريق، وفي المكتب، وفي المدرسة، وفي الأسواق، فلم يعد مجرد شوك أو عظم أو حجر في الطريق، فالناس بات يتعدى بعضها على بعض في الحقوق وفي الممتلكات والأبدان، هذا في الأمور الظاهر ضررها، وأما تلك التي تؤثر في المشاعر، فتكاد لا تحصى، ولو جاز لنا أن نستدرك، أن بعض الأذى يحدث من غير قصد أو ترصد، وهو من باب هفوات الإنسان، فالناس يتزاحمون في المجتمع ويتحركون بسرعة لتحقيق مآربهم، وهذا يورث الاصطدام والاحتكاكات والتي بدورها تؤجج فوران النفوس فيصدر من هذا وذاك قول أو فعل مؤذٍ، والضغوط في حياتنا المدنية المعاصرة تعرّي النفس من سكونها ورويتها، وتحتم التنافس لاكتساب مآثر الحياة التي يولد الغرور والاعتداد بالنفس ويؤسس في نفس الإنسان طبع التسيد على الآخرين واستلاب حقوقهم بتقمص الأثرة بالمال والجاه، وهو ما يجعله أقل تحملاً لهفوات الآخرين وميال لبسط اليد للانتقام، ثم إن ذلك التصرف الذي يتجدد كل يوم يبلد النفوس فتعتاد الأذى تصرفاً وتقبلاً، ويصبح القول والفعل الفاحش منهج التعامل وتفقد معايير الاحترام والمجاملة الاجتماعية معانيها. ولكن هذا الاستدراك لا يعفي المعتدين بالأذى من مسؤولية كبح جماحهم، وتدبر سلوكهم وتمثل أثره في النفوس، وتعويد النفس على الرقابة من الزلل.
الأذى يتمثل في كثير من التصرفات، فالظاهر منه أن يتلفظ أحدهم تجاه آخر بكلمات جارحة لإنسانيته نتيجة خلاف حول بيع أو شراء، أو أن يهتك أحد كبرياء آخر لكونه قصّر في عمل كان محل اتفاق، أو أن يتعدى أحد على منهم تحت يده من الموظفين والعاملين بالتقريع والتوبيخ، أو يصرع أحدهم آخر لقدرته على ذلك، ويحدث التعدي بالأذى على الأبدان والممتلكات وما يحرزه الإنسان، هذا النوع من الأذى يفعله صاحبه وهو واعٍ لأثره وراغب في إيقاع ضرره، ويترتب على ذلك تخاصم وتقاضي يحسمه القضاء العادل، ولكن هناك من الأذى ما لا يستشعره صاحبه، وهو ما تبلدت النفوس عن إدراكه، ويتجلى في كثير من التصرفات، فمثلاً عندما يقوم أحدهم سواء كان ممثلاً لجهة مسؤولة أو صاحب غرض خاص بوضع مطب في الطريق، ويتكلف في تكوينه ليكون بالغ الضرر بسيارة من لا يلاحظه، وهو يفعل ذلك، غرضه أن يحد من سرعة السيارات المارة، ولكنه لا يستشعر أن عليه أن يبذل جهدا أكبر في توضيح ذلك المطب بالإرشادات والعلامات المدللة فينتبه أصحاب السيارات لذلك ويتحقق غرضه فيقلل أصحاب السيارات سرعتهم، بل إنه عوضاً عن ذلك يبالغ في تكبير المطب، ويسر كثيراً عندما يسمع ارتطام سيارة بالمطب، فكما لو أنه ينتقم من تلك السيارات المسرعة عوضاً عن تنبيهها، وعندما تتضرر تلك السيارات، لا يستشعر مسؤوليته تجاه ذلك لأن فكرة الأذى كوسيلة رادعة تكرست لديه، ومن يتجول في جميع شوارع مدننا يجد هذا التفكير مترجم على الواقع، وعندما نذهب للبدان الأخرى نجد أن هذا التفكير لا أصل له، فسيد الموقف هو الإرشاد وليس الانتقام، ومن الأذى الذي لا يستشعره صاحبه هو ما يقوم به بعض أصحاب السيارات عندما يتخطون السرعة القانونية في الطرق السريعة ويحتكرون الجانب الأيسر من الطريق، وكل من يسير أمامهم هو معيق لهم، فيبادون بالإشارة بالأنوار العالية ولسان حالهم « ابتعد عن طريقي» وعندما يتعذر الابتعاد يقوم أحدهم بالتخطي بطريقة خطرة، حيث يخرج عن المسار الصحيح لكتف الطريق فيثير الغبار والحجار الصغيرة في وجه من يتخطاه، ناهيك عن القلق الذي يحدثه للسائق الآخر. ومن الأذى غير الملاحظ هو تخطي الناس عند انتظار الخدمات العامة باستخدام الجاه أو الأثرة والصوالة، فلسان حاله ذلك المتعدي، «من يمناك وإلا مت»، ومن الأذى غير الملاحظ تحقير الآخرين في أصولهم وهيئاتهم وممتلكاتهم في المجالس والأسواق. فهناك من يجرح المشاعر بكلام يهدف به الأمر بالمعروف، وهناك من يهين آخر عندما يتمثل سلطة عليه، وهناك من لا يراعي حقوق الآخرين في المعاملة الكريمة.
هذا الأذى الذي يحدث كل يوم، لم يكن ليحدث معظمه لو أن الناس استشعروا السلوك الذي وصى به صلى الله عليه وسلم، وأن كل منهم أحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأيقن أن التحضر الحقيقي ليس باقتناء مآثر الحياة والتمتع بها، بل هو في حسن التعامل بين مكونات المجتمع، فلا تعالي ولا غطرسة ولا غرور والاعتقاد بأن الفضل بين الناس، ليس فضل الأصل بل هو فضل الحدث، فكلنا من آدم وآدم من تراب ولكن تسمو بنا النفوس المرهفة التي تستشعر الحق وتستشعر المسؤولية وتستشعر المجاملة، فياليت أن يكون من مهام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، العمل على وضع آلية لتهذيب النفوس فهذا والله قمة الأمر بالمعروف.
M900m@gmail.com