تتعدد وجوه العنصرية وتتخذ أشكالاً بالغة القبح والوحشية، وأحياناً تظهر بشكل أقل قبحاً لدرجة أن الناس يعتادون عليها ويجاهرون ويفاخرون بها كعرف اجتماعي عريق، لكنها مع ذلك تبقى قبيحة الوجه والشكل، وفي كل الأحوال سواء في العنصرية القبيحة جداً أو الأقل قبحاً يكون السبب واحداً، هو الخلل الإنساني في منظومة القيم الاجتماعية.
ذكرت لكم في الحلقة السابقة عن مقاهي في الهند يوجد بها أكواب لشرب الشاي مخصصة للأنقياء وأخرى للأنجاس ويسمونهم هناك الذين لا يجوز لمسهم، وهناك أيضاً قتل بالآلاف للناس الذين يتجرأون على الزواج من خارج الانتماء العائلي، مقابل هذا العرف التمييزي المسكوت عنه في الهند من قبل الهنود تجاه أنفسهم هناك لطف يفوق التخيل لتودد الإنسان الهندي إلى الإنسان المنتمي للحضارة الغربية وخصوصا البريطانيين، وهم الذين كانوا ينظرون للهنود أيام الاستعمار كمجرد أتباع وخدم ووقود للحروب البريطانية في المستعمرات.
نحن عندنا ما يشبه ذلك. إذا تزوج عندنا من يقول إنه قبلي من أمريكية أو أوروبية أو أية جنسية خارج نطاق النسبة والتناسب المحلي فلا تثريب عليه. لكن الويل له إن تزوج بنت جيرانهم إذا كان هناك اعتقاد في فرق الجهد بين البطاريتين العائليتين. هذه الأنواع من الخلل في القيم الاجتماعية تقف الحداثة ضدها بكل صدق ووضوح. الحداثة الثقافية يجب أن تسمح بالكان المناسب للمناسب من القديم ولكن داخل الجديد وليس الجديد داخل القديم. الحداثة هنا كنمط تعايش وليس كنمط عيش تكون حالة انتمائية ثقافية إنسانية قبل أن تكون انسياقا مع الأنماط الاستهلاكية الحداثية الجديدة. إنها كما يقول الفيلسوف الألماني أدورنو: الحداثة قيمة نوعية وليست صيغة ظرفية.
الكثيرون من علماء الاقتصاد الرأسمالي يقولون بأن النمو الاقتصادي المادي يقود عادة إلى توسع إطار التسامح والتعايش بشرط أن لا يتم حجبه وتحجيمه تراثيا وطبقيا وإلا أصبح طموحا ماديا بحتا دون روح إنسانية.
بهذا أقول أن الموضوع الحداثي، بالرغم من محاولات التكريه والتنفير واللجاج التي أثارها حوله التيار التقليدي (المتجانس ظاهريا فقط كما دلت على ذلك السجالات الأخيرة)، يحتاج إلى توسعة الإطار الأخلاقي والإنساني للمفاهيم العرفية القديمة والكف عن العبث بها وإسباغ الشرعية الدينية عليها. يجب الاستغناء عن النوع المعطل ثابت الضرر من الأعراف والتقاليد القديمة. ولكن حتى عندما يحصل ذلك (وهذا هو التوجه المستقبلي الوحيد القابل للتعايش) فإن الجزء الآخر من الحداثة، أي الحداثة المادية الاستهلاكية تحتاج هي أيضاً إلى تحسين وضعها القبيح بطريقة عادلة وذلك بإتاحة فرص النجاح المتكافئة المتناسبة مع القدرات.
أوردت الهند كمثال فقط على وجود الكثير من الفساد في منظومات القيم الاجتماعية هناك وهنا وفي مجتمعات كثيرة، لكن الهند سبقت الآخرين المشابهين لها في النظر بعمق وصدق في أوضاعها ومشاكلها، ولذلك سوف تصل قبلهم إلى الهدف المستقبلي الذي تخطط له.