رحل غازي القصيبي -رحمه الله رحمة واسعة- بعد أن حارب سنوات على جميع الجبهات التي كان من أبرزها الجبهة الإدارية والإصلاح والتطوير.. رحل المقاتل الذي كانت أدواته الفكر والقلم والقرار الإداري بعد أن حارب في ساحات وقضايا فُرضت عليه.. مرات كانت معه الحشود والسواد الأعظم من الناس ومرات أخرى كان وحيدًا مجردًا من الآخرين والمتعاطفين.
قضية الإدارة لدى غازي القصيبي هي مقدمة للإصلاح العام ليس في بلادنا فقط وإنما في وطننا العربي الكبير. فقد استلهم غازي التاريخ العربي القديم والحديث منذ زمن حملة نابليون والدولة العثمانية وفترة الاستعمار وفيما بعد فترة التحرير والاستقلال العربي وسجل الإدارة كان مغيبًا، إما بيد الأعداء والغزاة أو بيد أبناء العرب.
حاول غازي القصيبي أن يجعل من الإدارة مشعلاً وقبسًا يزداد إضاءة في دروب بلادنا لينقلنا من زمن النمطية والتقليدية والمحافظة السلبية إلى الريادة والتميز والإبداع والجودة في وقت مبكر من تاريخ بلادنا أوائل التسعينات الهجرية والسبعينات الميلادية وحتى قبل الطفرة الاقتصادية والتنمية العمرانية، لكن المجتمع كان منجذبًا إلى النمطية والتقليدية في ذلك الزمن إلى الإدارة الهجينة بين الأساليب الحديثة والأعراف والتقاليد. والإدارة بالنهج العائلي والإقليمي والجهوي.
كان المجتمع السعودي يتلمس خطواته في مسالك وبلدانيات التحضر والتعرف على العالم الجديد على ما يحمل لنا مما وراء البحر الأبيض المتوسط في أوروبا وما وراء المحيط الأطلسي في أمريكا وكندا وشرق الخليج العربي في آسيا الصفراء الصين واليابان.
وكان المجتمع السعودي يتباعد عن الهجر والقرى الزراعية والقرى الساحلية وقرى الجبال وغازي يطلُ بوجهة وفكره وطموحه على بلادنا، يأتي بالجديد الإداري بعد أن تسلّم أكثر من وزارة وهي: الصناعة، والمياه، والكهربا، والصحة وآخرها وزارة العمل وسكة الحديد ليقول لنا: بلا إدارة فإننا نبني مدنًا من طين وملح وسراب ولن نقوى على الصمود ومعاندة مياه الأمطار والرياح وجميع التغيرات المناخية.. ليقول غازي: إن بلادنا بدون نهج إداري جديد (يخلع) عنه عباءة النمطية والتقليدية والرتابة والبيروقراطية السلبية فلن يستقيم حالنا وسنبقى داخل دائرة لا تتوقف أبدًا، تكرار يتلازم مع الإحباط والفشل. قال لنا غازي القصيبي ذات مرة قبل رحيله أشياء كثيرة: الإدارة ثم الإدارة ثم الإدارة. قال لنا حكايات جاءت على شكل قصائد وحروف منثورة وسخريات لاذعة وقصص ومقالات وكأنه يحرر نفسه وينأى عن خطايا الآخرين.
سيبقى غازي الرمز الوطني الذي أحب وطنه وحارب بالإدارة حتى تتغير ثقافتنا ونتجاوز زمن الإدارة بالأهواء والأمزجة إلى الإدارة الممنهجة التي تحترم حقوق الآخرين.