يعتبر محمد عابد الجابري الثقافة في الحضارة العربية قائمة على الفردية، فثمة أفراد عرفهم التاريخ يتحددون بوعيهم الفردي والثقافي ولا يعتقد الجابري بوجود طبقة مثقفة في الحضارة العربية على مختلف عصورها!
القصيبي غازي عبدالرحمن (1940م-2010م) مثقف متفرد لا ينتمي لطبقة مثقفة إذ لا وجود لهذه الطبقة في جيله، بل هو مثقف متفرد تماماً مثلما يصف الجابري ابن رشد وابن حنيل والشنفري وغيرهم من الحالات الفردية التي لا تتكرر كثيراً وتكون حالات استثنائية تقوم على مجموعة صفات شخصية محددة!
السلطة التي لم يذعن لها القصيبي هي سلطة المنظومة الاجتماعية التقليدية فكانت معاركه مبكرة مع التيار التقليدي الراكن نحو الجمود، فكان أن وقف التقليديون ضد ديوانه «معركة بلا راية» عام 1970م، أنهاها الملك فيصل بن عبدالعزيز بإنصافه له، ثم أثارت زاويته الشهيرة «عين في العاصفة» 1990م موجة من المعارك مع الصحويين الرافضين للاستعانة بالقوات الأمريكية لمقاومة المد الصدامي الغاشم على الكويت وتهديده للسعودية!
لم يفرج عن كثير من كتبه في السوق السعودي إلا قبل ثلاثة أسابيع من وفاته رحمه الله.
كنت في بدابة قراءاتي الواعية بعد تخرجي من الجامعة كتبت مقالاً عام 1990م بعنوان «نوال التي لم أحبها يوماً» كنت مصدومة فيه بأفكار نوال السعداوي، خصوصاً رأيها في توزيع الثروة العربية، لكنني لم أكتف بالنقمة على فكرتها المضادة لشعوب الخليج، بل سفهت بآرائها النسوية القيمة!
أذكر أن دكتور غازي طلب أن أزوده بالمقال لأنه سمع به وأرسلته ولم أطلب تعليقاً ولم يصلني تعليق!
لكنني في سنوات لاحقة وفي عام 1998م هاتفته لأطلب منه كتابة مقالة عن المرأة في حياته، فكتب كتابة جميلة نشرناها في مجلة البنات.
حظيت بتعليقات هاتفية منه على بعض مقالاتي وخطابات رد جميلة على كتب أهديتها له، لكنه لم يذكر رأيه في مقالة «نوال التي لم أحبها يوماً» التي كتبتها في بواكير وعيي الثقافي وليته فعل، لكنني أرجح أن مصادرة إيجابيات المفكر كلها بسبب فكرة سلبية واحدة منهج لم يرقه، لكنه رفق بحماسي!
دمعة ساخنة ذرفتها بحرقة وزوجي يبلغني خبر وفاته، تاريخاً جميلاًَ وشطراً غنياً من حياتنا وأحلامنا يترحل تباعاً، الرموز هم ذاكرتنا التي نعيش بها، حين نفتقدهم نفتقد ذاكرتنا شيئاً فشيئاً، القصيبي نص مشترك بين كل طبقات المجتمع، الكل يقرأ هذا النص وفق فهمه الخاص، القصيبي حكاية جميلة وعذبة تصل بيننا وتحرضنا على التشارك في قصها والتأمل في تنامي أحداثها، لذا فانتهاؤها وتوقفها عن السرد محزناً وبائساً.
الحكايات الأسطورية لا تنتهي، نهاياتها مفتوحة، وغازي القصيبي أسطورة خالدة لها فكر ابن رشد وصمود ابن حنبل وتمرد وحلم الشنفري، سيبقى القصيبي كما بقي هؤلاء في ذاكرة التاريخ!
f.f.alotaibi@hotmail.com