كما وطنت النفس على أن أتبادل معكم أسبوعيا عبر هذه الصحيفة على مدى ما يقارب عقدين من الزمان قطرات من راح الحبر المترع بشجن المواطنة والفكر والشعر والشأن الوطني وقضايا الرأي محليا وعربيا وعالميا في سباق
لا يهدأ بين الحرية والتحديات وبين المقبول رقابيا وإرضاء الضمير، يطيب لي بين الحين والآخر أن يشاركني القراء قراءة بعض الكتب الجميلة. كأنني بمراجعة تلك الكتب أو الوقوف بها مع القراء أريد أن أزيد من جرعة مشترك خبز الحبر وملح الأحلام التي اتساقها معهم عبر مقالاتي الأسبوعية أو كأنني أريد أن أوزع حمولة الضمير على كتاب آخرين وأتباهى بأنني لست وحدي في تهلكة الكتابة وبهاءها وهواها الحرون.
وهنا أقدم أحد الكتب التي ترمز إلى ذلك النوع المخلص من الكتابة. أما لو سأل سائل لماذا أقدم هذا الكتاب الآن وقد صدر قبل حين فذلك سؤال عليكم أنتم أن تقوموا بإجابته بعد أن تقرؤوا المراجعة أو تقومون من فوركم بالرجوع إليه.
*******
لم أتردد لحظة واحدة بعد أن أنهيت قراءتي المتأنية الأولى لكتاب د. فوزية البكر، مدرستي صندوق مغلق الصادر عن دار الرشد بالرياض عام 2005 من اعتباره كتاب العام.
إلا أنني لم أعلم بعد مضي عدة أعوام على صدور ذلك الكتاب وبعد عدة قراءات ونقاشات متعمقة له مع عدد من زميلاتي وطالباتي أنني سأعيد النظر في حكمي الأول لأرى أنه ليس كتاب العام وحسب بل إنه من تلك الكتب المرجعية التي لا تتراجع أهميتها مع مضي من الوقت، حيث يمكن دائما الرجوع إليها كعلامة فارقة في الخط التصاعدي للمعرفة العلمية. وهذه بعض ملامح تجربتي في قراءة هذا الكتاب الفذ.
أهمية الكتاب
الحقيقة أننا إذا أردنا أن نعرف أهمية هذا الكتاب فلا بد أن نكون على اطلاع قريب ودقيق بواقع المكتبة العربية في مجال الكتابات النظرية خاصة والأكاديمية بشكل عام في حقله المعرفي. فبالتسلح بمثل هذا النظرة المتفحصة سنجد أن هذا الكتاب يسد نقصا معينا تعاني منه المكتبة العربية ويجسر تلك الفجوة المريعة القائمة في قائمة ما يعرف بالكتاب الجامعي وذلك على مستويين. المستوى الأول، هو حالة عدم التوازن بالمكتبة العربية بين الثراء الفاحش في مجال الكتابات الأدبية وبين الفقر الذي يكاد يكون مدقعا في مجال الإنتاج العلمي. إذ إننا فيما لو استثنينا الكتب المترجمة التي تكاد تكون مصدرا رئيسيا للمكتبة العربية في مجال المعرفة العلمية وأدبياتها التنظيرية في حقل العلوم الإنسانية تحديدا فإن هذا الكتاب يشكل استثناء إيجابيا نظرا لإقدامه على تقديم مادة علمية عالية المستوى في مجال الدراسات التربوية ونظريات العلوم الإنسانية. المستوى الثاني، هو أنه بالنظر لغياب الكتاب الجامعي المرجعي الجديد باستثناء الاعتماد على عدد من تلك الكتب التي ساهم بها عدد من رواد العلوم الاجتماعية والإنسانية من مصر وبلاد الشام تحديدا بالإضافة لبعض «المذكرات» الآنية الخفيفة والغير معمقة فإن هذا الكتاب يشكل مرة أخرى استثناء إيجابيا يضاف لقائمة القليل من الكتب الجامعية الجادة بتقديمه مادة علمية جديدة في مجال الأدبيات التنظيرية للمعرفة العلمية في حقل التربية والعلوم الإنسانية.
موضوع الكتاب
يتميز هذا الكتاب بتقديم مادة علمية في مجال جديد من مجالات الدراسات الإنسانية وهو مجال لا يزال بابه غير مطروق إلا على استحياء في الدراسات العربية وذلك هو مجال الدراسات الإنسانية «المتداخلة» إن جازت الترجمة أي ما يعرف باللغة الإنجليزية (Interdisciplinary).
فالكتاب وإن كان ينطلق من حقل علمي محدد هو حقل الدراسات التربوية إلا أنه ينجح في استكشاف عدة آفاق في مجال العلوم الإنسانية الأخرى تلتقي مع الحقل التربوي وتضيف عليه أبعادا جديدة بحيث تتسع الرؤية بما يخرج على تلك النظرة القولبية التقليدية التي كانت تقيم معازل خانقة بين العلوم بعضها البعض وبينها وبين المجرى النهري الراكض للحياة الاجتماعية.
وهو من هذا المنطلق يقوم بتقديم مادة علمية ضافية في مجال النظريات الجديدة والمجددة في مختلف مجالات العلوم الإنسانية مثل التنظير التربوي النسوي والتنظير التربوي والاجتماعي ما بعد الحداثة. وهو على حد علمي واحد من الكتب القليلة خاصة في مجال المنتج العلمي بدول مجلس التعاون من المنطقة العربية الذي امتلك جرأة موضوعية على تقديم نقاش صريح لعدد من التيارات وموجات التفكير الاجتماعي الغربي من نظرياته الكلاسيكية إلى تنظير ما بعد الحداثة وما يتمثل فيهما أو يقع بينهما من نظريات محافظة أو راديكالية. يضاف إلى ذلك أن هذا الكتاب ينطلق من موقف مبدئي وأساسي يتعارض مع الإدعاءات الميكانيكية بالموضوعية العلمية. وذلك باتخاذه موقفا ورؤية نقدية سواء من المسائل التربوية أو الاجتماعية التي يتضمنها الكتاب والتي يناقشها بقدر عال من الشفافية والصدق النقدي.
ولا أنسى في الحديث عن مضمون الكتاب الإشارة إلى الجهد البحثي المضني المبذول فيه من حيث تعدد المصادر ودقة توثيقها بالإضافة إلى جماليات التحاور مع مختلف الآراء.
أسلوب الكتاب
إنه بكلمة أسلوب السهل الممتنع. وبقدر ما كانت تلك العبارة تثير حيرتي فإنني قد وجدت في هذا الكتاب ما يخرجها من المعنى المجازي إلى المعنى العملي للكلمة. فهو وإن كان يتمتع بلغة علمية رصينة إلا أنها لغة تتمرد على التقعر المعجمي الجاف الخالي من ماء الحياة. فأسلوب الكتاب من النوع الذي يشجع على القراءة سواء كانت قراءة منهجية أو قراءة لمجرد متعة العقل المعرفية. وهو كتاب يتميز أيضا بدرجة رفيعة من الانضباط المنهجي برغم مما يتمتع به من مساحات واسعة في حرية التعبير.
تجربتي الشخصية والأكاديمية مع الكتاب:
هناك أولا متعتي الخاصة بقراءة الكتاب وخاصة أنه قام بتقريب عدد من القراءات الهامة إلى اللغة العربية. إذ طالما تمنيت حين قرأت بول فيراري باللغة الإنجليزية قبل أكثر من ربع قرن وكتبت حينها عن مدرسته النقدية للمسألة التربوية باعتبارها جزء عضوي من المسألة الاجتماعية والسياسية لو أن باستطاعتي تقديم هذه المادة العلمية المثيرة لطالباتي وهذا ينطبق أيضا على تنظيرات ميشيل فوكو وأنتوني جرامشي وسواهم، فإذا بمؤلفة هذا الكتاب تحول بمفاتيحها العلمية السحرية الحلم إلى حقيقة.
هناك ثانيا توظيفي التطبيقي للكتاب في مجال عملي الجامعي. فقد قررت فصولا متعددة من هذا الكتاب في أكثر من مقرر من المقررات التي أقوم بتدرييسها بما فيها بعض مقررات الدراسات العليا، مثل (علم اجتماع الطفولة، الثقافة والمجتمع، علم اجتماع التربية ودراسات نسوية). وخاصة تلك الفصول من الكتاب التي تفتح جوارح الطالبة على الكيفية المعرفية لاستخدام الحواس الخمسة/البصر السمع التذوق الشم واللمس لتنهل من المصاب المتعددة للمعرفة العلمية. ففي الفصل الخاص بالمسألة الثقافية كسؤال حضاري بين الثقافة التقليدية وثقافة التجديد وبين ثقافة العولمة والثقافة الوطنية وكذلك بعض الفصول الأخرى كتلك التي تعنى بالدراسات النسوية والإثنية والعرقية والتي تقوم بالتفكيك التحليلي للمركزية الغربية في علاقتها بالمنتج الحضاري للثقافات الواقعة خارج تلك المنظومة المركزية كانت معينا لا ينفذ في توليد العديد من الأسئلة النقدية لدى الطالبات على مستوى العلاقة بين الذات والآخر وبين الواقع المعطى والمستقبل المنشود. وباختصار أرجو ألا يكون مخلا بل مغريا للفضول المعرفي لقراءة الكتاب من الغلاف الأول للغلاف الأخير فإنني قد اعتمدت هذا الكتاب كأحد المراجع الأكاديمية الرئيسة ليس فقط لتميزه في المضمون والأسلوب ولكن بالإضافة لذلك فإنني أقوم بتدريسه كما أقوم بترشيحه للقراءة لكل ذي عقل ووجدان شغوف بالمعرفة لأنه في رأيي كتاب يمتلك القدرة على تمكين الطالبة الجامعية والقارئ بشكل عام من استيعاب المنهج العلمي النقدي ومن تطوير ملكات التفكير العلمي الخلاق.
وفي الختام فإن هذه القراءة لا تجامل بأن من الاحترام لجهد الكتاب أن نقول: إنه مثل أي جهد بشري يحتمل الوقوف معه في بعض النقاط النقدية التي لا تقلل من أهميته العلمية.
Fowziyah@maktoob.com