حين وصلتني رسالة من صديقي المثقف الجميل، الدكتور محمد آل عمرو (عضو مجلس الشورى) تحمل نبأ وفاة الدكتور غازي القصيبي، لم أشأ أن أهاتف «أبا عبدالجيد» للتأكد من صدق الخبر، فقد كنت أمني النفس بأن الخبر مجرد إشاعة فحسب، غير أن وكالات الأنباء المختلفة أكدت الحقيقة التي لا راد لقضائها؛ مات «أبو سهيل»! لم يشأ أن يفاجئنا بخبر رحيله، فقد هيأنا لتلك اللحظة الموجعة بغيابه الطويل عن محبيه الكثر وهو الذي لم يغب عن قلوبنا لحظة.
(غازي القصيبي) هذا المفكر العملاق يعني لي ولأجيال من محبي الثقافة والأدب والوطن، رمز مضيء من رموز الثقافة والأدب والإدارة والتحديث والتنوير في وطننا وفي الوطن العربي كله؛ بل هو الرمز الاستثناء في مسار حياتنا، فقد عرفناه: كاتبا وشاعرا وقاصا وروائيا ومفكرا تنويريا ملهمًا، حارب الظلام والتخلف والانغلاق، أشعل شموع الأمل والفرح والبياض في دواخلنا.
أعطى عمره لوطنه، ولقضيته ولعمله؛ وككل الرموز الكبيرة ناله الكثير من السهام الطائشة من أعداء التقدم، ودعاة الفرقة والتشرذم، فما نالت منه بل زادته قوة وصلابة! كان فارسا نبيلا في معاركه، لم يطعن أحدا من الخلف، ولم يجارِ من أراد أن يجره إلى مستنقع البذاءة؛ كان مترفعا عن لغة التخوين والتشكيك ومحاكمة النوايا! أشعر بالألم لأننا أتعبنا الجسد الضخم بتهافتنا، وضعفنا، وأمراضنا! وفي يقيني أن «أبا سهيل» لم يخلق إلا ليكون. مفكرا ومصلحا ومبدعا، يعلم الأجيال كيف يكونون بشرا أسوياء، ويعلم الأمة كيف تلحق بركاب الدول المتحضرة. كان وطنيا حقيقيا بعيدا عن «المناطقية» و»المذهبية» و»الأممية»، لم تغرّه سطوة «المناصب» الرفيعة، ولا زخم الموهبة الأصيلة.
عاش كما يليق بالكبار أن يعيشوا، لم يكن مسئولا عاديا، ولا شاعرا أو قاصا أو روائيا من أولئك الذين يتسابقون للارتماء في أحضان الضعف البشري، ونزوات النفس الأمارة بالسوء! عزاؤنا أن «أبا سهيل» وإن وارى الثرى جسده، إلا أن الرموز المضيئة لا تموت، سيبقى حيا بفكره، وإبداعه، وتواضعه، وترفعه عن الصغائر.
لا أعرف في الختام من أعزي: سهيل، نجاد، فارس، يارا وأمهم، أم أعزي الوطن الذي فقد رمزا كبيرا من رموز التحديث والتنوير والعمل المخلص الدؤوب؟ أم أعزي أنفسنا، فقد كان غازي خسارة لنا جميعا، أسرته، وطنه، محبيه! «أبا سهيل»، إن غاب جسدك، فأنت الحاضر فينا؛ سنأخذ من فكرك، وإبداعك، وإخلاصك لوطنك نموذجا نسير عليه، فقد علمتنا أن هذا الوطن العظيم يستحق مواطنين عظماء أمثالك يدحرون جحافل الظلام والتخلف والفرقة! رحمك الله رحمة تليق بالأبرار المؤمنين «وإنا على فراقك يا غازي لمحزونون».
alassery@hotmail.com