أشكرك من الأعماق، فقد أبعدتني، يوماً وليلة، عن عالم التأشيرات، و»الكفالات» ورجال الأعمال المتنمرين، والعمّال من كل لون وملّة، إلى عالمين مختلفين».
هكذا كان مطلع رسالة الراحل الدكتور غازي القصيبي لي منذ سنوات، وحينما يشير فيها إلى عالمين مختلفين، فهو يتحدّث عن روايتيّ «القارورة» و»فخاخ الرائحة»، ولعل ما أدهشني آنذاك، هو قدرته الفذة على الإنجاز، فهو فعلاً استثناء، وإلا كيف يمكن أن نقرأ روايتين معاً، وفي ليلة واحدة، ثم يكتب لي رسالة خاصة، يشرح فيها تفاصيل رؤيته وذائقته تجاه هذين العملين؟.
كنت في مطلع تجربتي في الكتابة، أقول لنفسي، كيف يجد هذا الإنسان وقتًا يكتب فيه مع ممارسته مهامه الوظيفية الكبرى، هل يعقل مثلاً أن ينصرف من يحمل حقيبة أهم وزارة في أي بلد، وهي وزارة الصحة وقتذاك، إلى مكتب هادئ كي يكمل فصلاً من رواية، أو ينساب في صحبة الكلمات الفاتنة كي ينهي قصيدته؟ألا تربكه فوضى المستشفيات وتخلط أوراقه الإبداعية؟ ونحن حينما يصاب أحدنا بإنفلونزا خفيفة يكفُّ ليس عن الكتابة فحسب، بل حتى عن الحديث مع الناس، وأتذكّر أن أحد الشعراء الشباب يحتاج إلى أن يذهب إلى منتجع باريسي كي يتأمل ويكتب قصيدة جديدة، أي روح - غيرك يا غازي - تملك أن تصنع حتى من الخراب المحيط إبداعًا فذًّا؟ أي جَلَد هذا الذي يجعلك تتصيّد رواية مغمور مثلي، كي تخرج من عالم التأشيرات البغيض؟ وأي صبر هائل يجعلك توازن بين الدخول في عالمي الروائي البسيط، وبين عالم رجال الأعمال «المتنمرين» كما أسميتهم؟
أبا سهيل، كنت أستعيد دائمًا جَلَد الروّاد في الأدب والثقافة وصبرهم، وهم يعملون كمؤسسات ثقافية متكاملة، وليس كأفراد، وأعجب لهم حينما أجدهم ينجزون المؤلفات والمجلدات الضخمة، لكنك خالفت حتى هؤلاء، فهم تفرّغوا للكتابة والبحث، ولم تشغلهم وظائف مهمة وقيادية مثلك، خاصة أنك غالبًا ما تكون هدفًا لذوي الأهواء والتيارات التي تحاربك، كي تبلبل ذهنك، وهم يحاربون جهدك الوظيفي، دون أن يحمل أحدهم نزاهة تفرّق بين فكرك ورؤيتك، وبين عملك الوظيفي، ومع ذلك كنت تبادر بسماحة وبشاشة استثنائية، لتصفح وتعفو كما هي رحابة الكبار دائمًا.
تنهي رسالتك لي بدعوة رائعة، بعدما تحدثتَ طويلاً عن عالم شخصية طراد الذي قطف الذئب أذنه، حينما دفنته في الرمل قافلةُ حجّاج: «... والله يحفظك ويرعاك ويقيك شرَّ الذئاب المتحفّزة لقطف الآذان... والأقلام!».
كم عانيت -أبا سهيل- ممن حاول مرارًا أن يقطف قلمك، بل ويكسره، لكنك كنت الكاتب الاستثناء، كما وصفك الكتاب الذي صدر عن هذه الجريدة الرائدة «الجزيرة»، والذي احتفيت به واعتبرته وما فيه من شهادات أهم من جائزة نوبل، فبعد كل حرائق الهجوم والتحريض والتأليب ضدّك كنتَ تنهض من الرماد قويًّا ومتألقًا وناصع البياض، لا تتوقف طويلاً، ولا تكترث مما يحاك ضدّك، تؤمن بقيمة الإنسان وقوته، وقدرته على تجاوز أصعب المحن، كالشجرة كنت، كلما أينعت وأثمرت جذبت عابري السبيل، كي يستظلوا بها، أو يقذفوها بحجر، فتهزُّ لهم أغصانها بود، وتقذف نحوهم بثمر الحكمة والمعرفة.
رحمك الله -أبا سهيل- وغفر لك، وأسكنك الفردوس الأعلى.