إنّ الأمر الملكي الحكيم الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - باقتصار الفتوى على هيئة كبار العلماء، أو من يرشحهم مفتي عام المملكة ممن يملكون الأهلية العلمية لذلك، هو في غاية الأهمية وخصوصاً في هذا الوقت الذي اختلطت فيه المفاهيم واضطربت فيه التصورات وقلّ العلم،
وتجرأ البعض فيه على التحليل والتحريم وخصوصاً في مدلهمات الأمور وعظائمها التي تهم الأمة جمعاء؛ إن لم نقل تؤثر في أمنه وأمانه ورغده ورخائه، فهذا القرار الحكيم هو امتثال لقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً}. إن الفتوى من الأمور الجليلة الخطيرة، التي لها منزلتها العظيمة في الدين، {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}.. {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ}، وإن مما يدل على عظم أهميتها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولّى هذا الأمر في حياته، وكان ذلك من مقتضى رسالته، والذي هو تكليف من ربه عز وجل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، والمفتي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان والتوجيه - والمفتي موقع عن الله تعالى ، قال ابن المنكدر - رحمه الله -: «العالم موقع بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم). إن هذا القرار الحكيم من خادم الحرمين في تنظيم شأن الفتوى ليعطي الفتوى مكانتها الحقيقة في بلادنا المملكة العربية السعودية بلاد الحرمين وقبلة المسلمين ويصون جنابها من التحريف أو التبديل ويبين بجلاء عظم أمرها وأن أهلها هم من بلغوا في العلم والدراية مبلغه، وأنهم الذين أحاطوا بقواعد الاستنباط الإحاطة الكاملة والتي خوّلتهم لهذا الأمر العظيم الذي هو أمر الفتوى، والذي هو في حقيقته توقيع عن رب العالمين وتفويض منه. لقد جاء هذا القرار ليبيّن لنا أن أثر الفتوى ونتائجها لا تقتصر على المفتي أو المستفتي فقط، بل إنها تؤثر على الأمة جمعاء في حياتهم العامة والخاصة من أجل هذا فقد (ترسّخت في النفوس المؤمنة مفاهيم مهمة في شأن الفتوى وحدود الشرع الحنيف، يجب الوقوف عند رسمها ؛ تعظيماً لدين الله من الافتئات عليه من كل من حمل آلة تساعد على طلب العلم، ولا تؤهل لاقتحام هذا المركب الصعب، فضلاً عمن لا يملك آلةً ولا فهماً؛ ليجادل في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وإنما هو التطفل على مائدة الشرع، والعجلة - خالي الوفاض- في ميدان تحفّه المخاطر والمهالك من كل وجه ) .. بهذه الكلمات والتي وردت في الأمر الملكي الكريم والذي جاء ليحمي حمى الدين ويصون عرض الشريعة من عبث العابثين وتقوّل المتقولين، جاء ليضع النقاط على الحروف وليبيّن بجلاء (أنّ دين الله ليس محلاً للتباهي، ومطامع الدنيا، بتجاوزات وتكلفات لا تخفى مقاصدها، مستهدفة ديننا الذي هو عصمة أمرنا، محاولة - بقصد أو بدون قصد - النّيل من أمننا ووحدة صفنا، تحسب أنها بما تراه من سعة الخلاف حجة لها بالتقوّل على شرع الله، والتجاوز على أهل الذِّكر، والتطاول عليهم). {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ختاماً: الفتوى شَأنها جَسِيم، وخَطْبها عَظيم، وأثرها وخيم ويكفي من أهميتها أن سلَفنا الصالح يَتَدافَعُونها، كُلّ منهم يُحيلها على صاحِبه ، طلباً للسلامة والْخَلاص مِن تَبِعاتِها.
وهاهو عمر الفاروق رضي الله عنه، إذا حَزَبَه أمْر مِن أمُور الفتوى جَمَع لها كَبار الصحابة. قال الإمام أبو حصين عثمان بن عاصم الأسدي الكوفي: إن أحَدهم لَيُفْتِي في الْمَسْألة ولو وَرَدَتْ على عُمَر لَجَمَع لها أهْل بَدْر! فهل يعي المتصدّرون لها بلا علم ولا دراية خطورة الأمر!