يقول المثل الإنجليزي «الأيدي الكثيرة تفسد العمل Many hands spoil the job»، ويمكن القياس عليه والقول «الأصوات الكثيرة المختلفة تفسد العمل».
خرجت في الآونة الأخيرة بعض الفتاوى الصوتية والمرئية المنسوبة لبعض رجال الدين المنتمين للمؤسسة الدينية الرسمية في المملكة، وعارضها الكثير بما في ذلك رجال دين من نفس المؤسسة. لن أخوض في هذا المقال في سلامة هذه الفتاوى من عدمه لأني -ببساطة شديدة- غير متخصص في هذا المجال الحيوي. ولكن سوف أركز على الطريقة التي تقدم بها الفتوى لجمهور عامة المسلمين، وخصوصاً فئة الجمهور المتعلم.
أصاب معالي وزير العدل كبد الحقيقة حينما وصف حال الفتوى في المملكة بكلمتين: «عدم الاتزان.» إن فقدان الفتوى للاتزان يؤكد أهمية وجود ضابط مرجعي للفتوى وأن تسن القوانين والعقوبات التي تنظم عمل المنشغلين في مجال الإفتاء. ربما نجد ما يعلل تفاوت الاجتهاد في الفتوى من دولة لأخرى لأسباب عديدة، ولكن لا يوجد قطعاً ما يبرر هذا التفاوت الكبير بين الفتاوى الصادرة من المفتين في المملكة - قبلة المسلمين.
والفتوى على وجهين: خاص وعام. فالفتوى الخاصة هي تلك التي ترتبط بحياة المسلم الخاصة وعلاقته بربه عز وجل، ومن أمثلتها مسألة الطلاق وأحكام الصيام والحج. أما الفتوى العامة فهي تلك التي تمس المجتمع المسلم بكامله وتحدد واقعه الحياتي، وهذا النوع من الفتوى يمثل الإشكالية التي يقع فيها معظم المفتين نتيجة التسرع والانفراد في إصدار الفتوى دون الرجوع إلى المؤسسة الرسمية في الدولة المعنية بالإفتاء والحصول على موافقتها، ومن أمثلته التكفير والجهاد.
سوف ينتج عن استمرار حالة «عدم اتزان الفتوى» وتفاوتها فقدان الناس الثقة في المفتين وبالتالي التقليل من أهمية الفتوى في حياة المسلمين. لذلك أصبح من الضروري -في ظل المعطيات الحالية- تحقيق أمرين. أولاً، البدء في تقنين ما صدر من فتاوى حتى الآن. فالإسلام ذو رسالة عالمية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ 28)، فتقنين الفتوى سوف يعزز التراث الإسلامي ويحفظه عبر التاريخ. أدرك أن البعض يتحفظ على موضوع تقنين الفتوى بحجة أنها ربما تتغير بتغير الزمان والمكان وأن ذلك أيضاً ربما يتسبب في تقييد عملية الاجتهاد في الإفتاء. ولكن بعد مرور أكثر من 1400 سنة على بزوغ نور الإسلام العظيم أصبحنا نمتلك زخماً هائلاً من الفتاوى المتفق عليها والتي لا تتغير بتغير الزمان أو المكان. هذه الفتاوى الخاصة بالكثير من قضايا الدنيا والآخرة تحتاج إلى من يضعها في قالب موثق وتُعمم على عامة جمهور المسلمين عبر مصادر رسمية. بهذه الطريقة يقوم المسلمون في أنحاء المعمورة بالرجوع إليها والاستفادة منها عند الحاجة. علينا أن ندرك أن هناك الآلاف يعتنقون الإسلام سنوياً وهؤلاء بحاجة إلى وجود مراجع محددة وموثقة في الفتوى يرجعون إليها عند الضرورة.
ثانياً، لأبد من توحيد مصدر الفتوى-خصوصاً الفتوى العامة - نظراً لما يترتب عليها من آثار على مجتمع الدولة الإسلامية. إن توجه دار الإفتاء في المملكة- كما أشار مفتي عام المملكة -حفظه الله- إلى إنشاء دور إفتاء في مناطق المملكة مرتبطة ببعضها البعض خطوة إيجابية سوف تسهم في القضاء على حالة «عدم اتزان الفتوى». وجاء توجيه خادم الحرمين الشريفين-حفظه الله- بقصر الفتوى على الجهات الرسمية في المملكة داعماً لهذه الخطوة المباركة وقاطعاً الطريق على من يتخذ الفتوى وسيلة للظهور وإثارة البلبلة في بلادنا المباركة. وأرى أن هذه الدور الرسمية ستكون أكثر فاعلية لو أُنشئت لها قاعد بيانات (Date Base) على مواقعها على الإنترنت بحيث تضع عليها قائمة بالفتاوى الصادرة منها وتحديثها عند الضرورة وجعلها متاحة أمام عامة جمهور المسلمين في المملكة وخارجها للرجوع إليها عند الضرورة. كذلك أعتقد بأهمية أن يصبح هناك متحدث رسمي واحد للجهة المعنية بالفتوى في المملكة يمثلها عند صدور فتوى تمس مجتمعنا السعودي والمجتمع الإسلامي يوضح فيها أبعاد الفتوى وشرحها لجمهور المسلمين إذا لزم الأمر. بهذه الطريقة سوف تكتسب الفتوى صفتها الشرعية والرسمية، وسيقطع الطريق على من يحاول الإنفراد بالفتوى طمعاً في الظهور والشهرة أو في إثارة البلبلة في المجتمع الإسلامي.