Al Jazirah NewsPaper Tuesday  17/08/2010 G Issue 13837
الثلاثاء 07 رمضان 1431   العدد  13837
 
كل قال فتواه.. فماذا بعد القرار؟
د. سعد بن عبدالقادر القويعي

 

شكراً خادم الحرمين الشريفين أن أعدت إلى الفتوى منزلتها الجليلة، ومكانتها السامية العظيمة، وشكرا أبا متعب حين كرست الثقة بكبار علمائنا، وأعمدة فتوانا، بعد أن تحولت الفتوى إلى فوضى، حين طلبت وسائل الإعلام الفتوى ممن ليس أهلاً لها.

فالتنصيب للإفتاء أو الحجر مناط بولي الأمر، وهذا من أهم ضوابط الفتوى، وهو - بلا شك - جزء من مشروع ترشيد الخطاب الديني.

كم كانت الحاجة شديدة إلى ضبط الفتوى، وتوحيد مرجعيتها، وسد الباب أمام الفتاوى الشاذة، التي لم تراعِ المصالح والمفاسد، ولم تراعِ المآلات في الأقوال والأفعال، كما لم تراعِ التوازن بين الكليات والجزئيات، ناهيك عن جهلهم بالأدلة وأنواعها، واختلاف مراتبها في دلالتها، وكيفية استنباط الأحكام منها، وطرق الترجيح فيها.

وللأسف، فإن هذه الفتاوى الشاذة، والآراء المرجوحة، شتتت ولم توحِّد، وفرّقت ولم تجمع، وشوّهت صورة ديننا، وأساؤوا إلى سمعة علمائنا ومؤسساتنا الشرعية، وانطبق عليهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «... اتخذ الناس رؤوسا جُهّالا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا». مع أن هؤلاء ممن فُتح لهم باب الإمامة، أو الخطابة، أو الوعظ، أو غير ذلك، فاعتقدوا أنهم مؤهلون للفتوى؛ فتعدوا صلاحياتهم، وتجاوزوا أنظمة الدولة، وشككوا في اضطلاعها بمسؤولياتها.

إن الحجر على قليلي البضاعة في الأحكام الشرعية، من الذين قفزوا على أمور الدين من الثوابت والمبادئ، من أهم أولويات الإمام؛ لذا قال الخطيب البغدادي -رحمه الله-: «ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتوى أقره، ومن لا يصلح منعه، ونهاه وتوعده بالعقوبة إن عاد». ثم قال: «وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتيا أن يسأل عنه علماء وقته، ويعتمد أخبار الموثوق بهم». وقال ابن القيم - رحمه الله -: «من أفتى وليس بأهل فهو آثم، ومن أقرهم من ولاة الأمور فهو آثم أيضاً». وقال أبو الفرج ابن الجوزي - رحمه الله -: «ويلزم ولي الأمر منعهم.. وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق.. وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبب الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين». ثم نقل عن شيخه ابن تيمية - رحمه الله - قوله: «وكان شيخنا شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلت محتسباً على الفتوى؟! فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟!». وقد ذكر الكاساني في بدائع الصنائع: «روي عن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه كان لا يجري الحجر إلا على ثلاثة: المفتي الماجن، والطبيب الجاهل، والمكاري المفلس؛ لأن المنع عن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن المفتي الماجن يفسد أديان المسلمين، والطبيب الجاهل يفسد أبدان المسلمين، والمكاري المفلس يفسد أموال الناس في المفازة، فكان منعهم من ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

ومن أجمل ما قرأت في شروط المفتي، من كتاب «الفروق» للإمام شهاب الدين القرافي المالكي - رحمه الله - في الفرق الثامن والسبعين، الفرق بين قاعدة: من يجوز له أن يفتي، وقاعدة: من لا يجوز له أن يفتي، قال: «فالناس مهملون له إهمالاً شديداً، ويقتحمون على الفتيا في دين الله تعالى، والتخريج على قواعد الأئمة من غير شروط التخريج، والإحاطة بها، فصار يفتي من لم يحط بالتقييدات، ولا بالتخصيصات من منقولات إمامه، وذلك لعب في دين الله تعالى، وفسوق ممَّن يتعمده، أوما علموا أن المفتي مخبر عن الله تعالى؟! وأنَّ من كذب على الله تعالى، أو أخبر عنه مع عدم ضبط ذلك الخبر، فهو عند الله تعالى بمنزلة الكاذب على الله؟! فليتق الله تعالى امرؤ في نفسه، ولا يقدم على قول أو فعل بغير شرطه». ونقل عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن شيخ مالك، حيث رؤي أنه يبكي، «فقيل: ما يبكيك؟ فقال: ظهر في الإسلام أمر عظيم! استُفتي من لا علم له، ثم قال: من يفتي بغير علم أحق بالسجن من السراق». وقد علق ابن القيم - رحمه الله - فقال: «فكيف لو رأى ربيعة زماننا، وإقدام من لا علم له على الفتيا، وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر، أو غريب».

هذه الحقيقة التاريخية التي وردت في البيان بأن: «من يتجاوز هذا الترتيب فسيعرض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي، كائنا من كان، فمصلحة الدين والوطن فوق كل اعتبار». ذكرتني بقصة مماثلة، وموقف مشابه، ذكرهما الدكتور ناصر بن زيد بن داود عن والده - رحمه الله -، قصة ذات عبرة، ودليل حنكة، وتمرس في معالجة الأمور الداخلية، وبرهان تضلع في إدارة الأمور، ومعالجتها، وحسم مادة الشر قبل ظهورها وشيوعها. يقول - رحمه الله -: في اليوم الذي توفي فيه مفتي الدولة السعودية في وقته - الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ رحمه الله -، في العام «1367هـ»، سار في جنازته حشد كبير من الأمراء والمشايخ، وعلى رأس الجميع جلالة المؤسس المغفور له - بإذن الله تعالى - الملك عبد العزيز. يقول والدي: بعد الصلاة ودفن الشيخ عاد الحشد إلى قصر الإمارة، وكان عدد المشايخ وطلبة العلم السائرين في جنازة الشيخ يكاد لا يحصى، وكان شارع البطحاء الحالي لا يزال على حاله وادياً ومجرى للسيل، تملؤه الحجارة الصغيرة، وقبل أن يصلوا إلى الطريق المؤدي للقصر أوقف الملك عبد العزيز هؤلاء الجمع، وقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، واسترجع من مصيبة فَقْد الشيخ - غفر الله له - ثم أفاد بلزوم تعيين من يخلف الشيخ، وأن ذلك سوف يعلن خلال ثلاثة أيام، ثم علا صوته - رحمه الله - واحمرت وجنتاه، وأقسم بالله إن بلغه من أحد من الحضور فتوى أو رأي قبل تعيين المفتي القادم لأقطعن لسانه، ولأجعلنه أدباً لغيره. يقول والدي: إن الملك عبدالعزيز مهيب الجانب حتى وهو يضحك، فكيف به وهو غاضب في يوم عزاء! لقد وجم الناس، وخيم عليهم الصمت، وعرفوا معنى ما يقوله ذلك الأسد الهصور، والليث المزمجر. ولم تمض الأيام الثلاثة حتى أعلن الديوان الملكي تعيين الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتياً عاماً للدولة، ورئيساً للقضاة.

إن سَنّ مشروع يضبط إصدار الفتاوى، ويقننها؛ لقطع الطريق أمام من تصدر الفتوى من غير أهل العلم، والحجر على كل مُفتٍ جاهل تجرأ على الفتوى بغير علم، يدفع عنا تصادم النصوص، كما يدفع عنا تصادم الذوق العام والفضيلة والفطرة؛ فالفتوى ليست إبداءً لرأي شخصي، أو تحكيماً لعقل مجرد، أو استجابةً لعاطفة نفسية، أو تحقيقاً لمصلحة شخصية متوهمة، بل هي إخبار عن حكم الله بالدليل لمن سأل عنه، والمفتي هو المخبر عن حكم الله، وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهذا - بلا شك - يؤكد أهمية الثقة بفتاوى العلماء الربانيين الراسخين في العلم، والاطمئنان إليها، ونشرها في المجتمع.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد