من لوازم البحث المنهجي، ومن مقتضيات الدقة الموضوعية أن يتجه الباحث صوب التحرير والتأصيل للمسائل والمعارف التي يقاربها، قبل أن يخوض لججها، ليكون المتلقي على بينة من أمره، فالنجوى العائمة لا تزيد المشاهد إلا ارتباكاً وتيهاً في عتمة الغموض وحمأة التشتت، ولا سيما أن العصر يعيش حالة من الانفجار المعرفي وتحكمه ثورة الاتصالات.
حتى لا تخفى على المتابع خافية، إضافة إلى تعدد الخطابات وصدام الحضارات والتكتلات الطائفية و العرقية والحزبية. وأولويات الباحث أمام هذا التكاثر العشوائي للعلوم والمعارف والوسائل والتحزبات والتعصبات وتعمد التصفيات والتصنيفات أن يكون بارعاً في الانتقاء ودقة الترتيب وحسن العرض. ومقاربة الثقافة بأنساقها وسياقاتها وأطوارها بوصفها جماع المعارف والتجارب والمواقف يزيد في الالتباس بسطة، وقدر الثقافة أنها جماع أشتات كما الفلسفة التي نسلت منها المعارف. فما من منظمة أو هيئة ذات مساس بها إلا هي أمام فيض من اضطراب المفاهيم, ولعل أعقد سؤال وأبعده عن التصور السؤال عن مفهوم الثقافة ومتعلقاتها من أشياء وقيم وأناسي، والباحث أي باحث حين يتعاطى مع ظاهرة لم يصل أهل الحل والعقد فيها إلى التعريف الجامع المانع يدخل عوالمها خائفاً يترقب، ولقد كانت لي إلمامات متأنية مع الثقافة ومجالاتها عبر البحوث والمحاضرات تمخضت عن كتاب حاولت في مستهله أن أقترب منها عبر جذورها اللغوية ومفهومها الاصطلاحي، وكلما استعصى على عالم منال المصطلح هرع إلى الدلالة اللغوية الوضعية للمنطوق، ومع ذلك لم أقطع بشيء، ولكنني أرسلتها العراك، فالذين عنوا بها من قبل أو من بعد قنطوا من إمكانية الحسم حول المفهوم والمشمول ويكفي أن يكون للثقافة أكثر من مائة تعريف، ولما يزل المجال مفتوحاً للإضافة، وأحسب أن المعهود الذهني عن الثقافة يقطع قول كل خطيب، ومن ثم فإنه يشكل أرضية كافية لممارسة الحديث عن الثقافة وأبعادها المتعددة. فما الثقافة؟ وكيف نتصور إسهامها في تنمية القيم السلوكية أو المحافظة عليها. ومن المثقف؟ وهل تتحقق بالكم المعرفي، أم بالنوع المعرفي، أم بالتمثل السلوكي، أم بها معاً؟. فيض من التساؤلات الحائرة التي لا تزيد المتلقي إلا تردداً وحيرة. ففي بحوث سلفت وأخذت طرقها إلى الإلقاء والنشر ثم الجمع والطبع، حاولت عبثاً أن أنطلق من جذر الكلمة اللغوي (ث ق ف) إذ كلما تعددت الطرق وتنوعت الخيارات على الباحث توسل بالدلالة الوضعية للغة، وإن كان المعنى الاصطلاحي لا يقيد مفهومه بالدلالة اللغوية، ولكن الخطوة الأولى تكون من الدلالة الوضعية للكلمة، والمعجميون والموسوعيون حصروا المعنى اللغوي لجذر الثقافة بثلاث دلالات: (الوجادة - التعديل - والحذق) فأنت تثقَّف الشيء إذا وجدته. وأنت تثقف المعوج إذا عدَّلته. وأنت إذا حذقت الشيء فأنت مثقف. والدلالة المصطلحية لن تخرج عن هذه الدلالات اللغوية الثلاث. فالثقافة كسب وممارسة وتأثر، وكلها تؤديها الدلالة اللغوية. وحين يخيل إلينا أننا فرغنا من معرفة الثقافة مجردة من تلبسها، فإننا أمام معضلات لا تقل تعقيداً عما سلف، وذلك حين تتلبس الثقافة بمكونها ومتمثلها، وهذه المعضلات تتمخض عن تساؤلات أشد نفوراً مما سلف:
- فما القدر المعرفي؟ وما النوع المعرفي اللذان يجليان الثقافة؟
- ومن هو المثقف؟
- وهل الثقافة كسب وحسب، أم هي كسب وممارسة؟
وهنا أقول بكل ثقة: إن الثقافة إشكالية في حالة التجرد والتلبس، ولكنها إشكالية مغرية وممتعة. وإذ نتفق طوعاً أو كرهاً على الدلالة اللغوية ونصطلح على الاكتفاء بالمعهود الذهني عنها، لا نجد السبيل ميسراً للاتفاق والاصطلاح حول الكم والنوع المعرفي، وتحديد المثقف بنوع المحصول وكمه أو بممارسة العمل الحضاري. لا أريد تخويف القارئ بهذه التساؤلات، ولست متشائماً، فما من شيء إلا وله حده ومفهومه، علمه من علمه وجهله من جهله، والمسألة في النهاية تسليم طوعي للمكن، أو تفويض لعلام الغيوب، غير أن العقلية الإنسانية جريئة بحيث أوغلت في المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، ولم تتهيب صعود الشواهق من جبال المعرفة، فكيف تضيق اليوم عن فعالية الثقافة بكل تعقيداتها.
والثقافة من حيث هي كسب معرفي متنوع، ونسق سلفي متأصل واستيعاب واع لهذا الخليط من التشكلات، لكنها في النهاية وعي وموقف وتوظيف عملي للمكتسب، ولكيلا أقيد نفسي في مفهوم معين أدع الأمور تجري على سجيتها، وأدع لكل متلق مفهومه وقناعته، إذ لن أعدم أرضية مشتركة أبادل المتلقي فوقها بعض ما يساورني من رغبات حول إسهام الثقافة في تنمية القيم السلوكية، لكي تحقق وجودها. وقبل الخوض في هذا المعترك أود أن نتصور معاً مفهوم القيم السلوكية المطلوب تمثلها، ومن السهل أن نلتقي، فنحن أبناء حضارة فصَّلت القول في قيمها، وما فرطت في شيء منها، وحضارة الانتماء لا تتحقق إلا من خلال تمثل هذه القيم. وتجليتها معرفياً وسلوكياً من مهمات الثقافة السوية، ولو تلبثنا ملياً لاستكناه فلسفة الأخلاق في الإسلام لوجدناها جلية عند ذوي الاختصاص، فالأخلاق في الإسلام جزء من التكاليف يثاب سائلها ويعاقب تاركها، وليست نفعية آنية تقوم من خلال الربح والخسارة المادية، وهذا التميز أعطى الأخلاق الإسلامية مساحة واسعة في القول، ولو ذهبنا نستنطق مصدري التشريع الإسلامي النصيين: (الكتاب) و (السنة) لكنا أمام فيض من الآيات المحكمات وسيل من الأحاديث الصحاح، فلقد عن لي استعراض كتاب (نظرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم) ووقفت أتأمل حقل الآداب العامة والسلوكيات فيه، وكم أتمنى لو أن أحدنا تدبر المرجعية النصية للحضارة الإسلامية ليرى أنه على محجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك. فالله (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) وهدى الإنسان النجدين. وصدق الله «ما فرطنا في الكتاب من شيء» وإشكالية الثقافة في العصر الحديث أنها لم تستمد من قيم الحضارة أو لم تحكم بها على الأقل، فالأجواء الفكرية لم تنج من التلوث الفكري والسلوكي، الأمر الذي أثار الشبهات أمامها، وجعلها مثار تساؤل وتحفظ. وإذ كنت مغرماً بإثارة التساؤلات بوصفها أسلوباً تربوياً فقد تحاميت الحشو المعرفي، ولا سيما أن المعرفة مطروحة في الطريق, وتلقيها دون عناء مؤذن بذهابها دون أثر، وقد أجد بعد إثارة الانتباه أن الأجواء النفسية مهيأة لاقتناص بعض النصوص التي لا أشك أنها حاضرة الذهن، حتى يقول المتلقي بعد سماعها (هذه بضاعتنا ردت إلينا). والحديث عن دور الثقافة في تنمية القيم السلوكية يتطلب تحديد نوع الثقافة وأسلوب أدائها، فالتراث حافل بمختلف المعارف، ولكن حيث لا يستدعي من غياهب التاريخ ويمحص ويفعل لا يؤدي الدور المطلوب منه، وكيف نغمط الإسلام حقه ودوره والرسول الكريم يقول: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ويقول الله عنه (وإنك لعلى خلق عظيم)، وحين تتشبع الثقافة من النصين الكريمين تكون الأقدر على تهذيب السلوك وتنقية الأخلاق، ولكيلا يختلط العذب الفرات بالملح الأجاج فإن علينا أن نقوي البرزخ الفاصل بين الثقافة كما نريد والثقافة المنفلتة من الضوابط، والثقافة من حيث هي تتسع للخير والشر، لأنها جماع المكتسبات، وعلينا في ظل الخلطة المستحكمة بين الثقافات تكريس مفاهيم التميز والخصوصية والهوية. فالخلطة مظنة الفساد وفقد الهوية. وليس من مقتضيات الاحتفاظ بالهوية المفاضلة أو التصدير كما يتصور المتخوفون وليست عامل عزلة وجمود كما يشيع المرجفون، والوجود السوي لا يمكن أن يتحقق في ظل المسخ والذوبان في الآخر، كن متفاعلاً ولكن كن قبل هذا متميزاً بمحققات وجودك والذين يؤكدون على خصوصية المطعون والملبوس والمستعمل يوصفون بالماضوية. والحق أن استصحاب تلك المحققات من مقتضيات التجديد. فالتجديد لا يعني التخلي عن محققات الذات، والثقافة إن لم تكن ممارسة فإن الإنسان يصبح مجرد وعاء لا قيمة له والثقافة في النهاية تراوح بين العقم والنماء والمسخ. فأي الأنواع أحق بالبقاء؟.